شعار قسم مدونات

متلازمة عبد الناصر

جمال عبد الناصر
جمال عبد الناصر (مواقع التواصل الاجتماعي)
كأي شاب مصري نشأت على حب جمال عبد الناصر، حيث تصر الدولة ومجتمعها على إرضاعه لنا منذ الصغر بشتى الطرق على اعتبار أنه واجب وطني، فإن لم يكن من خلال مناهج التعليم والإعلام الرسمي والصحف التي تمجد فيه بصورة مبالغ فيها، فمن خلال الأفلام والأغاني الوطنية لمطربين كبار أمثال أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، علاوة على جيل الستينيات الذي عاصر حكم ناصر وطالما تغنى بوطنيته وشجاعته، نعم فهو الزعيم الذي تصدى للقوى الاستعمارية الكبرى بمساعدة ودعم الشعب الرافض للاستبداد والطامح للحرية، وقام بتأميم قناة السويس وإنشاء السد العالي وإصدار قانون الإصلاح الزراعي، كل هذه إنجازات لعبد الناصر لا يستطيع أحد إنكارها، لكن مساوئ عهده الكثيرة غطت على إنجازاته فكفى أننا نعيش الآن في طغيان دولته البوليسية العسكرية التي أسسها منذ أكثر من 60 عاماً، نعم فلقد استطاع عبد الناصر إنهاء الاحتلال البريطاني لمصر لكنه استبدله باحتلال آخر أشد وطأة، ذلك الحكم العسكري الذي نهب ثروات هذا البلد وأضاع مستقبل أجيال باسم الوطنية وشعارات القومية الزائفة.

الوجه الآخر لعبد الناصر

الزعيم الخالد، قائد الوحدة العربية، كل هذه ألقاب حظى بها عبد الناصر على عقول وقلوب كثير من المصريين والعرب، لكن هناك وجه آخر لعبد الناصر لم تكشف عنه مناهج التعليم وملفات الدولة الرسمية، وجه آخر أشد قبحاً وديكتاتورية واستبداداً، وجه لطالما حرص جيل الستينيات والنظام على إخفائه عنا، فعبد الناصر كان كأي عسكري لا يقبل إلا بصوت واحد هو صوته، لذلك أنشأ السجن الحربي والمعتقلات والتعذيب لمعارضيه، وقام أيضا بحل الأحزاب واستثار الشعب للخروج في مظاهرات للمطالبة بالحكم العسكري بدلاً من الديمقراطية الذي طالما حاربها، وقد تسبب هو ونظامه العسكري في نكسة 67 بعد أن تركوا الثكنات وانشغلوا بأمور السياسة، وبعيداً عن النكسة العسكرية كان هناك الكثير من النكسات أشد ضرراً، نكسات اقتصادية وسياسية وإنسانية ووطنية على جميع المستويات، وما زالت الأجيال المتعاقبة تذوق مرارتها حتى يومنا هذا، وهنا يطرح التساؤل نفسه لماذا يعشق كثير من المصريين عبد الناصر رغم استبداده؟!

الإعلام، الجهل، تغييب العقول، الحب الأبوي، الفتوة، كل هذه الأعراض أصابتنا بمتلازمة عبد الناصر، ولكن ألم يحن الوقت بعد لكي نُشفى منها؟!

عبد الناصر الأب الروحي

بعد قيام حركة الضباط الأحرار ورحيل الملك فاروق، وتولي عبد الناصر حكم مصر، أحس المصريون بالفخر والاعتزاز لأن رئيسهم أصبح مصريا مثلهم وليس أجنبيا دخيلا عليهم ينفذ أوامر الخارج، فعبد الناصر كان بالنسبة للمصريين الرئيس الجدع ابن البلد الذي منهم وليس الخواجة فاروق الذي يحمي مصالح القوى الاستعمارية، لذلك كان شعور المصريين تجاه عبد الناصر تماماً مثل شعور الأبناء لوالدهم، فلقد كان عبد الناصر هو الأب الروحي للمصريين الذي لا يستطيعون كرهه مهما فعل، حتى لو كان هذا الأب قاسيا في معاملته، حتى لو فشل وانهزم، حتى لو طغى وتجبر، لكن في النهاية لن يكف الأبناء عن حبه ودعمه مهما حدث، تلك الصورة والمكانة التي وصل إليها عبد الناصر في قلوب المصريين قد تكون تكونت بسبب كاريزمته العالية وشعاراته القومية وخطابه العاطفي، أو بسبب إعلام النظام الذي عمل على التمجيد في الزعيم ليل نهار وتغييب كثير من عقول المصريين مستغلاً جهلهم ونزعتهم الوطنية، أو بسبب الظروف التي هيأت كل هذه الأسباب معاً.

عبد الناصر الفتوة

ليس صحيحاً أن الجميع كان مغيبا من قبل إعلام النظام وقتها، فقد كانت هناك فئة قليلة من المثقفين ترى حقيقة ما يفعله عبد الناصر لكنها رغم ذلك أحبته أيضاً، ما اللغز إذاً، السبب الرئيسي من وجهة نظري في تعلق كثير من المصريين بعبد الناصر حتى يومنا هذا، قد أشار إليه نجيب محفوظ في رواياته عن فتوة الحارة، فدائما ما يميل المصريون إلى حكم الفتوة ذلك المستبد العادل أو المستبد الظالم، هناك شيء متأصل في ثقافة المصريين منذ زمن بعيد يدفعهم إلى الإعجاب بالفتوة والخضوع له، ذلك القوي الشجاع الذي يحمي الضعفاء ويقف في وجه الاقطاعيين وينصر المظلومين، حتى لو كان هو نفسه ظالماُ ومستبداً، فالفتوة أبو نبوت الذي يهابه جميع أهل الحارة ويعملون له ألف حساب هو نفسه الرئيس العسكري الذي طالما نادى به عموم المصريين لكي يحكمهم بالكرباج لأنهم لن يفلحوا سوى بهذه الطريقة كما يقول العامة منهم، ولا عجب في أن تتمثل طبيعة الكثير منا في احتقار الضعيف حتى ولو كان على حق والتمجيد في القوي حتى ولو كان على باطل.

شبح عبد الناصر

واليوم أصبحنا في الألفية الجديدة وفي عصر جديد، ولكن شبح عبد الناصر ما زال يطاردنا حتى اليوم، فما زال نظامه العسكري يحكم مصر ويسير على أساليبه خطوة وبخطوة، وما زال جيل الستينيات يعيش على أنقاضه وتائه بين شعارات زعيم قومي مضى وحاضر ومستقبل مظلم، وليس غريبا أن الناصريين قاموا بتأييد العسكر أسوة بعبد الناصر زعيمهم الملهم، فلقد رأوا فيهم عبد الناصر مكرر، ولكن اصطدمت أحلامهم بصخرة فكر العسكرة، تلك العقلية الأمنية المتحجرة التي لا تعرف كيف تدير الأمور، في واقع الأمر أتعجب ممن يسمون أنفسهم بالناصريين، فالناصرية ليست مذهبا سياسيا، وإنما شخص اسمه جمال عبد الناصر، ذلك العسكري الذي لم يكن لديه فكر خاص به، وإنما أراد فقط تطبيق مذهب اشتراكية الدولة، ولكن بسبب استبداده وشعاراته الزائفة وسعيه وراء مجد شخصي أصبحنا نعيش اليوم في طابونة يحكمها تلاميذه من العسكر بالحديد والنار.

الإعلام، الجهل، تغييب العقول، الحب الأبوي، الفتوة، كل هذه الأعراض أصابتنا بمتلازمة عبد الناصر، ولكن ألم يحن الوقت بعد لكي نُشفى منها؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.