شعار قسم مدونات

قراءة في فكر إدوارد سعيد

blogs - Edward

نقد الفكر صعب جدًا، وحين تتداخل ذات المفكر مع فكره (وهو تحصيل حاصل ولكن بدرجة تختلف من مفكر لآخر) يصبح الأمر أكثر صعوبة، وحين يكون المفكر بحجم "إدوارد سعيد" يصبح التردد سيد الموقف. على أي حال، فإنني لا أعتبر هذه التدوينة نقدًا بمقدار ما هي قراءة متأنية في فكر إدوارد.

بعد قراءة عدة كتب لإدوارد، تشعر بأنك أمام مفكر يواجه بشريته بشجاعة وصدق، ويصفي حسابه مع نوازعها بحزم، وهذا ما وصفه به صديقه محمود درويش حين قال: "يصفي الحساب مع النزعة البشرية". يمكننا أن نلحظ بعد قراءة كتابين متتاليين في ترتيبهما الزمني أن إدوارد يراجع نفسه ويقومها أولًا بأول، ففي كتابه "المثقف والسلطة"، وصف إدوارد حال المثقف الباحث عن الحقيقة، فهو أولًا لا يسمح للسلطة بتوظيفه بشكل مباشر كخبير يخدمها، أو احتوائه بشكل غير مباشر لتمرير أفكار تنسجم وتوجهاتها. وهو ثانيًا وإن انحاز لصف الشعب فلن يحتويه سياق التيارات الفكرية الدارجة، بل يبدع سياقًا جديدًا قد يكون فيه إزعاج للسلطة والشعب معًا، ما يؤدي بالضرورة إلى حالة من الغربة والمنفى يقاسي المثقف مرارتها، وقد يدفعه ذلك إلى مغازلة السلطة بشكل لا شعوري!

بهذه الدقة شخّص إدوارد حال المثقف بين مطرقة السلطة وسندان الشعب! الأهم من ذلك أنني استشعرت أن هذا الوصف وقفة صادقة من إدوارد مع نفسه! فقد كان يستدرك على نفسه بعض ما وقع منه في كتابه "الاستشراق"، وهو كتاب سابق في ترتيبه الزمني على كتاب "المثقف والسلطة".

ثمة شدة يأخذ بها إدوارد نفسه ليقدم نفسه كمثقف لا منتم، أي أنه لا ينتمي إلى عرق أو قومية أو اتجاه فكري أو حزبي معين، ويعود ذلك لسببين:
1. إيمانه بأن الانتماء يجب أن يوسع مظلته ليغطي الإنسانية كافة، أو بعبارة أخرى لأنه يرى أن الانتماء يجب أن يكون لقيم العدالة والحرية. وعلى أي حال فلا مجال هنا لمناقشة إمكانية التوفيق بين انتماءاتنا الطبيعية لقومياتنا وانتماءاتنا الأخلاقية لقيم العدالة والحرية. ولعل الأهم من مناقشة ذلك طرح التساؤل التالي: ما العيب في أن تكون لنا انتماءاتنا الطبيعية، وهل ذلك بالضرورة يدل على تحيزنا أو على رغبتنا في ممارسة الظلم ضد اصحاب الانتماءات الأخرى؟! وذلك ما ناقشه أستاذ الفلسفة في هارفرد "مايكل ساندل"، في إحدى محاضراته.

2. أنه يحمل هم القضية الفلسطينية، ويكتب باللغة الإنجليزية، ويحاضر في الجامعات الأمريكية، وتنتشر أبحاثه في الأوساط الأكاديمية الأمريكية والعالمية، وهو محاط ببعض مفكري الغرب العنصريين الذين انتقد فكرهم مرارًا وتكرارًا في كتاباته. ناهيك عن كونه ينقد بلغة ثائرة غاضبة، وبذلك فلن يغفر له أحد إن لم يأخذ نفسه بهذه الشدة.

رحل إدوارد عن عالمناوخلف إرثًا فكريًا قيمًا بعد أن شخّص العلاقة الجدلية المعقدة بين المثقف والسلطة.

لذلك نراه يستحضر الهولوكوست كلما تحدث عن مجازر الكيان الصهيوني في فلسطين أمه التي أنجبته. ومن عباراته المتكررة "ضحايا الضحايا"، فأبناء شعبه الفلسطينيون هم ضحايا لضحايا الهولوكوست! ولعله يرى أنها ضربة مزدوجة، فهو قد تحدث عن مجازر الصهاينة ضد شعبه، وذكر الغرب بمجازرهم !

يمكن لبعض قراء "إدوراد" أن يخرجوا بنتيجة مفادها أن إدوارد يمكن تصنيفه كخبير يخدم المصالح الأمريكية لو ابتغت أمريكا العدول عن سياسات الهيمنة والسيطرة إلى سياسات رعاية مصالحها بشكل أكثر لطفًا! لكنني أرى أن هذه النتيجة تحمل قدرًا كبيرًا من الفجاجة والاتهام.

يمكنني أن أقول عوضًا عن ذلك أن الإدارة الأمريكية يمكنها الاستفادة من فكره للتحول من سياسات الهيمنة والسيطرة إلى سياسات رعاية مصالحها آخذة بعين الاعتبار ضرورة الاهتمام بتنمية الضعيف ومساعدته على التطور، وبعبارة أخرى ففكره يحمل نصائح يمكن لأمريكا إتباعها للتحول من سياستها الإمبريالية إلى السياسة الإمبراطورية. أظن ذلك أكثر تناسقًا مع رومنسية فكر إدوارد، وأظن ذلك أكثر تناسبًا مع ما ذكر في فقرة سابقة عن صدق إدوارد وعن علاقة المثقف بالسلطة كما وصفها إدوارد.

انصب فكر إدوارد على تقديم نقد للسياسة الأمريكية في تعاطيها مع قضايا العالم، وقد سخر من نظم الحكم المستبدة التي تتعاطى معها أمريكا، لكن فكره لم يتضمن البحث عن حلول لشعوب العالم تنبثق من واقعها، وهذا لا يعيبه، فلا بأس لو كرس المفكر مجهوده للقضية التي يراها أكثر إلحاحًا أو يرى نفسه أقدر على حملها.

غير أن إدوارد قد سخر من بعض التيارات النهضوية القومية ووصفها بالراديكالية والعنصرية وضيق الأفق! ولعلي أظن أن الأولى بمثقف منحاز إلى الشعوب أن يقدم لهذه التيارات ما يقوم نضالاتها ويجعلها أوسع أفقًا أو يمسك عن التعريض بها على الأقل، ويكتفي بقضيته التي كرس نفسه لأجلها. إلا إذا كانت وصفات الأنسنة وسعة الأفق والخروج من الإيديولوجيات العنصرية لا تصلح لتياراتنا على مختلف أطيافها، بل تصلح حصريًا للغرب وأمريكا.

رحل إدوارد عن عالمنا عام 2003، وخلف إرثًا فكريًا قيمًا، رحل إدوارد بعد أن شخّص العلاقة الجدلية المعقدة بين المثقف والسلطة، رحل إدوارد فتحركت قريحة صديقه محمود درويش فأبدعت مرثية رائعة اختتمت بقوله: "نسر يودع قمته عاليًا عاليًا فالإقامة فوق القمم تثير السأم". 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.