شعار قسم مدونات

دور المرأة الذي تعمد الإسلاميون إخفاءه!

blogs - woman
في خضم التحوّلات الاجتماعية التي تشهدها مجتمعات ما بعد الربيع العربي، ومع الأزمات الطاحنة التي تواجهها المرأة في البيئة العربية، ينتشر الخطاب النسوي (Feminism) الداعي إلى (تمكين) المرأة، والمتمركز حول الأنثى -بتعبير عبد الوهاب المسيري رحمه الله- داعيًا إيّاها إلى تحقيق ذاتها والتحرّر من قيود الأعراف والتخلّص من الهيمنة الذكورية، ممّا يضع المرأة في مواجهة مع الرجل الذي يمثل -بالنسبة للنسويين- مادة للانتقام والاستبداد.

ومع تداعيات هذا الخطاب رأينا ظواهر مستهجنة كظاهرة (خلع الحجاب)، والدّعوة إلى السفور العلني، وغيرها من الظواهر المعادية للدين المصاحبة للخطاب النسوي بطبيعة الحال بسبب أصوله الاستعمارية بالأساس.

ومع انتشار خطاب (تمكين المرأة العربية) وجد الإسلاميّون أنفسهم في موقف الدفاع، ومع شعورهم بالتهديد أمام ازدياد حدّة الانحلال الأخلاقي والتفسّخ الديني، ازداد تمسّكهم بالسرديّات التقليدية عن (مكانة المرأة في الإسلام) لتترسّخ الشعارات المطبوعة في أذهان الإسلاميّات من نوعية (الستّ ملهاش غير بيتها) و(المرأة من بيت أبوها إلى بيت زوجها)، ونحو ذلك.

لكن هل كان هذا هو الوضع في التراث الإسلامي؟! هل كانت المرأة الإسلامية فعلًا محجمة تمامًا عن المشاركة في المجال العام، فلا تتصدّر للعمل العام، ولا تتحرّك في المجتمع، ولا تقود مجموعات أو أنشطة معيّنة؟!

حريٌّ بنا إذن -في خضم التحوّلات والأزمات الراهنة- أن نعيد النظر في وضع المرأة في تراثنا بدلًا من إطلاق الشعارات الاختزالية السهلة، حتى لا تقع المرأة العربية بين مطرقة الخطاب النسوي وسندان الخطاب الإسلامي التقليدي.

لنأخذ جولة سريعة في تاريخنا الإسلامي.. ولنبدأ بدور المرأة في المجال الخيري/التطوّعي، فنذكر من النساء في تراثنا: (تركان خاتون بنت عز الدين مسعود) التي توفيت عام 641هـ. قال عنها ابن جبير في رحلته: (كان لها أفعال كثيرة في طريق الحج، منها سقي الماء للسبيل، وعينت لذلك نحو ثلاثين ناضحةً، ومثلها للزاد، واستجلبت من الكسوة والأزودة وغير ذلك نحو مائة بعير). وكان سنّها وقد فعلت ذلك كله: نحو خمسة وعشرين عاماً. كما أنشأت تركان المدرسة "الأتباكية بدمشق"، ومازالت المدرسة موجودة إلى اليوم.

وعن قوّة بعض النساء وشدّة بأسهن، نذكر: (غزالة زوجة شبيب بن يزيد)، من ربّات الفروسية والشجاعة، والفصاحة والبلاغة، والنسك والزهد. خرجت مع زوجها ضد الطاغية الحجّاج بن يوسف، وقاتلت في حروب عديدة ضدّ الحجاج حتى هرب في بعض الوقائع خوفًا منها! فعيّره بعضهم وقيل فيه أبيات الشعر الشهيرة:

أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامةٌ … ربداء تجفلُ من صفير الصَّافرِ
هلاّ برزتَ إلى غزالةَ في الوغى … بل كان قلبك في جناحي طائرِ

أمّا في مجال الإدارة والسياسة فنذكر: (خديجة بنت عمر بن صلاح الدين البنجالي): كان أبوها سلطاناً، فلمّا توفي خلفه أخوها وكان سيء السيرة، فخلعه الشعب ونادى بها سلطانة على عرش أبيها، فكان سلطانها ينبسطُ على أكثر من ألفي جزيرة من جزائر الهند!

وقد تقدّمت مرافق الحياة في وقتها تقدّماً حسناً، لا سيّما في الزراعة والصناعة، وكانت المراسيم الملكية تُكتب باسمها، وكان الخطيب يذكرها على المنبر يوم الجمعة فيقول: اللهمّ انصر أمتك التي اخترتها على العالمين، وجعلتها رحمة لكافة المسلمين.

أمّا في مجال العلم الشرعي فحدّث ولا حرج ..فمن العالمات الجليلات: بنت أخي شيخ الإسلام:( زينب بنت عبد الله بن عبد الحليم بن تيمية) الحنبلية. روَت الحديث عن بعض أهل العلم، وحدّثت، وأجازت الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله.

ومنهنّ: (خديجة) بنتُ الإمام المالكي الفقيه (سحنون بن سعيد)، كانت ذات فقهٍ وعلم، قال عنها القاضي عياض: (كانت خديجة عاقلة عالمة ذات صيانة ودين، وكان نساء زمانها يستفتينها في مسائل الدين، ويقتدين بها في معضلات الأمور). وكان أبوها -الإمام صاحب المرجع الأساس في الفقه المالكي- يستشيرها في مهمّات أموره، حتى إنه لما عُرض عليه القضاء لم يقبل إلا بعد أخذ رأيها.

وذكر ابن عساكر أنه كان له بضع وثمانين امرأة من مشايخه !وكذلك شيخ الإسلام ابن القيم تلقى العلم من مشايخ نساء كُثر .. منهن: من الأسكندرية: (خديجة أحمد محمد الأصبهاني)، ومن القاهرة: (أم عبدالكريم فاطمة سعد الأنصاري).

هذا كلّه غيض من فيض، فلماذا لا تُذكر هذه النساء كقدوات للفتيات في أيامنا؟! ولمصلحة من لا تتصدّر هذه النماذج؟! أوليس عجيبًا أن الإسلاميين أنفسهم لا يتحدّثون عن هذه النماذج، بل والأعجب أنهم يصدّرون مفاهيم للمرأة عكس هذه النماذج بالكليّة؟!

إن الحديث عن دور النساء في التراث الإسلامي هو ضرورة حيوية يقتضيها الواقع، فكم من نساء مغمورات متميّزات في تراثنا لا نعرفهنّ رغم أنهنّ قد قدّمن الكثير وساهمن بقوّة في المجال العام، فالكسل المعرفي السائد حجب هؤلاء المتميّزات عنا، فحريٌّ بنا إذن -في خضم التحوّلات والأزمات الراهنة- أن نعيد النظر في وضع المرأة في تراثنا بدلًا من إطلاق الشعارات الاختزالية السهلة، حتى لا تقع المرأة العربية بين مطرقة الخطاب النسوي وسندان الخطاب الإسلامي التقليدي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.