شعار قسم مدونات

الكواكبي.. هل كان علمانيًا؟

blogs - الكواكبي
رسمة للمفكر الإسلامي عبد الرحمن الكواكبي (مواقع التواصل الاجتماعي)
إن الحديث عن الكواكبي حديث عن رائد من رواد النهضة، آمن بأمته العربية ذات الحضارة والتاريخ المشرق، فقام يحارب ما يعتري واقعها من أسقام على رأسها الجهل والاستبداد؛ حيث كان العرب وقتها قبائل ينتهي تفكيرها عند حدود قطعانها، رازحين تحت نير الاحتلال العثماني، مقهورين من ولاة فاسدين وخونه عينهم الباب العالي لقمع كل نفس تواقة للحرية، وجباية كل قطعة نقدية لملء خزائنهم وإرسال ما يفيض عنها إلى السلطة المركزية في الأستانة.

فبعمله في الصحافة والمحاماة وقف الكواكبي على فساد السلطة العثمانية، وبهروبه من حبل المشنقة التي أعدها له والي حلب لإسكات صوته إلى الأبد؛ أولًا إلى بيروت ولًاحقا إلى القاهرة، لامس الكواكبي مدى سوء حال الأمة العربية حينها وضرورة إصلاحه ببث روح جديدة في صفوف أبنائها، فلخص بواكير فكره في كتابيه: "أم القرى" و"طبائع الاستبداد"، إلى جانب مسودات سرقها عملاء السلطة العثمانية بعد اغتياله، وبذلك غدى الكواكبي من أشهر رجالات الفكر والإصلاح في تاريخ العرب الحديث، وحاز التقدير والاهتمام من الباحثين وأجيال الأمة المتعاقبين، باعتباره أول من شخّص عِلل الأمة ووصف لها العلاج الأمثل.

دعوة الكواكبي إلى فصل العلماء عن السياسة حتى لا يستغل الدين لخدمة مآرب الساسة، ويبقى للعلماء دوره الذي يتجلى في مراقبة الحكام، والدفاع عن المستضعفين وصون الأمة.

لكن الكواكبي وفكره لم يكونا محل ترحيب وتقدير من دعاة وشيوخ معممين فرخهم التيار السلفي الوهابي ودعمهم ريع النفط، طالما ادعوا حماية الدين وتنقيته من كل البدع والأباطيل، فلم يتوانوا عن اتهامه بالعلمانية، تهمة لم تطلق هكذا اعتباطًا فهي في وطننا العربي كافية لجعل أكبر المثقفين والمفكرين يضطرون للهرب خارج بلدانهم وربما تطليق زوجاتهم منهم. من قرر اتهام الكواكبي بهذه التهمة أراد لفكره أن يطمر ولذكره أن يندرس، كما فعل بغيره من كبار رواد عصر النهضة وتبخيس أعمالهم، تارة بتهمة الانتماء للمذهب الشيعي، أو الماسونية كما هو الأمر بالنسبة لجمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده.

مجرد اتهامهم للكواكبي راجع بالأساس إلى أمور ثلاثة:
الأول: مناهضته للحكم العثماني، ما ساهم في تأليب الرأي العام العربي ضد الأتراك ودفع بإسقاط الخلافة الإسلامية، وهو أمر دعا إليه الكواكبي وصدع به في كل المحافل فعلًا، وبعيدًا عن مبررات هذا الأمر من وجهة نظره من كون السلطة العثمانية استبدادية مركزية ينعدم فيها العدل والتساوي في الحقوق بين طبقات المجتمع.

إن كان الكواكبي علمانيًا لأنه صدع بمعارضته لسلطة الخليفة العثماني فكيف بمن حاربها بقوة السلاح كما هو الحال بالنسبة للدولة السعودية الأولى التي شكلت نواة الفكر الوهابي وبدايته والذي يتهم شيوخه اليوم الكواكبي بالعلمانية، ومشهورة هي الحروب التي اندلعت بين قوات الإمام عبد الله بن سعود والقوات العثمانية بين عامي: 1811 و1818، والتي انتهت بدمار الدرعية عاصمة ابن سعود وأخذه أسيرًا إلى الأستانة حيث أُعدم بعدما نُكل به لثلاثة أيام.

لا شك عندي أن أتباعه من بعده قد أفتوا بكفر العثمانيين بدعوى عبادة الأضرحة ونقص التوحيد؛ ليدفعوا مقاتليهم إلى مواجهة إخوانهم في العقيدة وتحدي سلطة خليفة المسلمين. فلماذا كل هذا الحرص على الخلافة العثمانية اليوم، وقد كلفتها حروبهم أكثر مما كلفها الكواكبي وفكره، ماديًا وبشريًا ودعائيًا؟ فالكواكبي لم يحارب مؤسسة الخلافة وإنما دعا إلى تجديدها بتولية خليفة عربي يكون محل قبول من العرب وجيرانهم كما جاء في كتاب "أم القرى".

undefined

الثاني: دعوته إلى فصل العلماء عن مؤسسة الحكم في الدولة، ما اُستغل ليفسر كدعوة لفصل الدين عن الدولة؛ وهو المعنى الكلاسيكي للعلمانية، لكن باستقراء كتبه نجد غير ذلك؛ حيث أنه انتقد بشدة العلماء الرسميين المعروفين اليوم باسم علماء البلاط، إذ أن كل مجتمع يسوده الاستبداد السياسي، إلا وجر إليه استبدادًا دينيًا لمزيد سيطرة على الرعية، فيغدو الحكم ثيوقراطيًا؛ يكون فيه السلطان هو الملك المؤيد بالله، فإذا قتل، قتل بأمر الله، وإذا سرق إنما حاز بأمر الله، وإذا ما قرر فإنما بهداية الله وتوفيقه، دون الرجوع إلى الشعب فلا حسيب ولا رقيب.

ومن هنا جاءت دعوة الكواكبي إلى فصل العلماء عن السياسة حتى لا يستغل الدين لخدمة مآرب الساسة، ويبقى للعلماء دوره الذي يتجلى في مراقبة الحكام، والدفاع عن المستضعفين وصون الأمة، لا التماهي ومؤسسة الحكم وتبرير أفعال الحكام مقابل عرض الدنيا وبهرجها.

الثالث: دعمه وتبنيه لفكة القومية العربية، فقد ولد الكواكبي في فترة ازدهر فيه الفكر القومي في أوروبا وانتقل منها إلى الدولة العثمانية، لكنه سرعان ما تحول فيها إلى عنصرية بغيضة فرضت سياسة التتريك على العرب خصوصًا رغم أنهم يشكلون ثلثي سكان الدولة، فهضمت حقوقهم في المناصب والارتزاق مقارنة مع باقي القوميات، وفرضت الجندية على العرب دون غيرهم لا لشيء إلا لكونهم الوحيدين الذين يمكنهم تحمل ضنك العيش. بل وتطور الأمر في دولة الخليفة إلى أن صارت كلمة "عرب" مرادفة للرقيق ولكل حيوان أسود.

حق لنا أن ندعو صراحة إلى القطع مع كل أشكال الفقه التقليدي، ما يضعنا أمام حتمية تجديد الفقه والفكر الإسلاميين، بما يوائم روح العصر، ويفتح على الأمة باب الحرية في الفكر والإرادة.

رغم ذلك لم يرد الكواكبي على هذه العنصرية البغيضة بمثلها، وإنما دعا إلى وحدة الصف العربي على اعتبار أن العرب مادة الإسلام، وأقدم الأمم اتباعًا لأصول تساوي الحقوق وتقارب المراتب الاجتماعية ولكون اللغة العربية جامعة للعرب وبقية المسلمين ما يؤهل العرب ليكونوا أنسب الأقوام للمرجعية في الدين ومحل القدوة للمسلمين.

بذلك فكرة القومية التي دعا إليها الكواكبي تعتبر العرب هم الوسيلة لجمع الكلمة الدينية للمسلمين كافة ودعوته لتنصيب خليفة عربي من باب حكم الأمة نفسها بنفسها. لكن الذين يدّعون أنهم حماة الدين، والساهرون على حمايته لم ولن يتقبلوا فكرة الوحدة العربية، لأنهم مع الأسف غير قادرين على مشاركة أموال النفط مع أي كان وبخاصة مع أخ في العروبة أو الإسلام، وعوضًا عن ذلك تجدهم على أهبة الاستعداد لكيل أطنان الدعوات والابتهالات تارة لفلسطين، وأخرى للصومال، وغيرها لسوريا، ونسوا أن فلسطين ضاعت بسبب تواطؤهم، والصومال جاعت بسبب شرههم وأنانيتهم، وسوريا دمرت بسبب خيانتهم.

إن الذين يحاربون فكر الكواكبي اليوم هم امتداد لزبانية الاستبداد، الذين خطفوا روحه، وهم أيضًا من نذروا أنفسهم للتطبيل لقرارات الحكام، دون اعتبار لمدى موافقتها للشرع الذي يدعون حمايته، وهم الذين فتحوا نيران خطبهم للتحريض على حصار جيرانهم العرب، فلم يستحضروا قيمًا دينية، ولا مبادئ إنسانية، ولا وشائج قومية طالما جمعت بين العرب.

كانوا وقودًا للثورات المضادة التي أجهضت أحلام الملايين بالحرية، وهم أيضًا الذين أخرسوا أفواههم عن الاعتداءات الصهيونية التي دنست المسجد الأقصى ومنعت الصلاة فيه، وهم أيضًا من صموا آذانهم عن تصريحات سفراء لهم في الخارج يعبرون فيها عن سعي دولهم لإنشاء حكومات علمانية في الشرق الأوسط، ما لا يدع للشك مجالًا في أنهم بمحاربة الكواكبي يحاربون الفكر الحر، والمبادئ الديموقراطية، ويصرون على بقاء الأمة قطعانًا أمام حكام فاسدين ومستبدين. إننا باستعادة فكره اليوم، وأمام ما قام به هؤلاء وما زالوا.

حق لنا أن ندعو صراحة إلى القطع مع كل أشكال الفقه التقليدي، ما يضعنا أمام حتمية تجديد الفقه والفكر الإسلاميين، بما يوائم روح العصر، ويفتح على الأمة باب الحرية في الفكر والإرادة، فلا وصاية لأحد على أحد، ولا كذب باسم الله ولا له؛ لأنه غني كل الغنى عن ذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.