شعار قسم مدونات

الحياة غواية والانتحار هداها

مدونات - الانتحار
تملأ الكاتبة الإنجليزية فرجينيا وولف جيوب فستانها بالحجر، وترتمي في حضن النهر بحب، ويبتلعها هو بكل حقد وغدر، لقد تركت وراءها خاتمة آخر رواياتها، وسينشرها زوجها الكاتب ليونارد وولف. فهل فرجينيا أقل إيمانا وهداية من أولئك الذين استيقظ أهلهم في صباح ما فوجدوهم في حالة غياب أبدي على أفرشتهم الوثيرة؟

في أوطان كل واحد من أهلها يزكي نفسه على الآخر، ويقسم الإيمان والهدى بين الناس دون عدل وبكل جور، فرجينيا ضالة ضلالة إبليس عن الصراط المستقيم، لقد تجاوزت منطقة التفكير المحرمة إلى شجاعة التنفيذ، إنها شجاعة حقيقية، ويجب أن تكون صريحا وواضحا بما يكفي لتعترف أن الانتحار يستدعي شجاعة كبيرة واستثنائية النوع، بغض الطرف عن التنظير الديني والقانوني وحتى السيكولوجي. ولعله آن الأوان أن نعترف أن الفتوى التي تحرم تجوال فكرة الانتحار في الخاطر، توهمنا أن هذا الخاطر عبارة عن زقاق ضيق، وهي فتوى يمكن أن يكون لها أثر عكسي، فهل يعرف هؤلاء فيما يفكر المنتحر قبل خطوة التنفيذ؟!

اللحظات التي تسبق خطوة التنفيذ أكثر اللحظات التي يشعر فيها المرء بعبثية الأشياء، عبثية الأشخاص، عبثية الحياة، وعبثية الوجود كله. ويتملّكه شعور الوحدة، العجز، الضياع، والحزن أو الغضب، يعاني من فراغ روحي رهيب جدا، لكنه يعجز عن الحراك، شيء ما يجعله يختنق بالكلمات في صدره. الملحد لن يطلب من الطبيعة إنقاذه، والمؤمن بالله لن يطلب من الله إنقاذه، لأنه قد نسي الله، أو لأنه يئس من رحمة هذا الإله الذي يقولون أنه يختبر صبره، في حين أن صبره نفذ، هؤلاء من تبوء محاولاتهم بالنجاح غالبا، في حين تقول التجربة أن البعض رغم اقتناعهم بغواية الحياة وأن الانتحار هداها في تلك اللحظة البوهيمية، إلا أنهم يحاولون انقاذ أنفسهم حتى آخر رمق من الروح في أجسادهم. لقد قابلت قبل نحو عامين أو ثلاثة من الآن سيدة، قابلتها عقب محاولتها الفاشلة للتخلص من روحها المؤجرة، قالت: "حاولت المقاومة، لكني لم أستطع، صوت ما في داخلي يغريني بفعل ذلك، بابتلاع أقراص الدواء دفعة واحدة".

دائما أعتقد أن الثرثرة حول طريقة التعامل مع الدوافع الخارجية للانتحار ضرب من الحماقة، والحل هو تعليم الناس كيفية التعامل مع الدوافع الداخلية أو الانفعالات في ذروتها

وفي سنة 2015 كان لي صديق افتراضي في قائمة أصدقائي على موقع فيسبوك بهوية مستعارة، ما شدني إليه هو منشوراته التي تدور في فلك واحد هو فلك الانتحار، وشعرت بمسؤولية التدخل، تواصلت معه بضع مرات، حاولت خلالها تزيين الحياة له ومنحه أفكارا بسيطة للاستمتاع بها، ثم انتبهت إلى تغيره تدريجيا، واكتشفت بعد ذلك أنه ممثل فكاهي، وصدمت من مفارقة أن شخصا يقوم بتسلية الناس، داخله مفخخ بالجراح حد التفكير في التخلص من ذاته، هؤلاء العائدون من الموت الحتمي بأقل خسارات، يجب دراسة الظاهرة من خلالهم.

وتقول التجربة أني وقفت فوق شهقة الجبل في أحد الأيام، لأرتمي في حضن الوادي الفاصل بين جبلين، لكن فكرة مدهشة خطرت في ذهني، فتراجعت لكتابتها، وبمجرد أن مارست الفعل الكتابي شعرت أني لست في حاجة للانتحار، فعدت إلى البيت. وذات مرة وقفت فوق شهقة الجبل لنفس الغرض السابق، لكني بعد كبت مديد انفجرت بالبكاء، البكاء بحرقة، وشعرت بعد ذلك أني لست في حاجة إلى الانتحار، فعدت إلى البيت، وهنا يمكننا الإشارة إلى الحكمة من تشييد مقاهي البكاء في الصين، تستقبل المكتئبين والعاجزين عن البكاء لمساعدتهم.

وتقول التجربة أني ذات مرة أيضا وقفت فوق شهقة الجبل، لكني اهتديت إلى محادثة الله: أنقذني يا إلهي.. ساعدني يا الله. كان ما يزال بصيص من نور الله في قلبي، وقد نجوت بفضله، مستوى الإيمان في مرتبط بمدى قدرتنا على جهادنا لأنفسنا، و"الانتشاء الروحي" كما يسميه باولو كويلو، درجة إيمانية قد يرتقي إليها أي امرء، لكن الحفاظ عليها يستدعي بعض الجهد وصدق الرغبة.

ربما هذه النقطة في حاجة إلى تفصيل طويل وعريض، وككاتبة يمكنني الاشارة إليها فقط، لكن المنتحرين دائما ليسوا سعداء، إنهم في حالة حزن عميق أو حالة غضب شديد، الشاعر خليل الحاوي مثلا، انتحر احتجاجا على الاجتياح الإسرائيلي لبيروت سنة 1982، الاحتجاج عادة مقترن بالغضب، أما فرجينيا وولف فانتحرت لشعورها بالعجز عن إسعاد الإنسان الذي تحبه، ذلك الإنسان زوجها ليونارد وولف، الذي كان يُكنّ لها كل الحب. .وهنا يحضرني ما قرأته عن انتحار 150 شاعرا في القرن العشرين، لملمت شتاتهم جمانة حداد في "سيجيء الموت وستكون له عيناك".

ومن أطرف ما قرأته في الموضوع، هو أن شابا أمريكيا كان يستشير صديقته حول قراره الانتحار، وظلت هي حتى آخر لحظة من حياته تشجعه على فعل ما يريده، لتجد نفسها متابعة قضائيا بسبب ذلك. الأمر يحتاج ثورة في أساليب المقاومة، مقاومة هذه الشجاعة المريبة في إيذاء النفس، وثورة في أساليب انقاذ هؤلاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.