شعار قسم مدونات

حوار عربي مع صديقتي الأمازيغية

Blogs-amazig
غالباً ما يتساءل كثير من أهل المناطق الوسطى بالجزائر التي يقل فيها وجود الأمازيغ عن عقلية الأمازيغ وخاصة أمازيغ "القبائل" من مدن كـ "تيزي وزو، بومرداس، بجاية، برج بوعريريج" وغيرها من مناطق ينحدر منها القبائل الأقحاح. لكن شاعت عنهم العصبية وكره العرب والحقد تجاه كل ما هو عربي.

           

كنت قد درست مع قبائليات وبعضهن كنّ صديقاتي، لم يظهر عليهن التعصب. فالقبائل المتعصبون لا يظهرون كرههم في مناطقنا. لكن كشفت المواقف عن نفاق كثيرات ممن حسبتهن صديقاتي فقد كنَّ أشد الكارهات لعرق العرب وكررن كلمات عصبية أمامي كلما اجتاحتهن نوبات غضب. كدت أصدق أن القبائل حقا يكرهون العرب فوقع الصدمة كان قاسياً على نفسي.

        

ذات صيف، شاءت الأقدار أن ألتقي صديقة حين شاركت في أحد الملتقيات الفكرية حيث بدأ حوارنا حين طلبت منها قلماً لأني نسيت قلمي. وبسرعة أخذنا نتجاذب أطراف الحديث عن المستجدات السياسية والفكرية والشأن العام للبلاد. لكن ما جذب انتباهي هو عربيتها الفصيحة واستشهادها بآيات القرآن فتخرج كل حرف بإتقان فتبادر في ذهني أنها من منطقتنا، فالمتعارف أن سكان منطقتنا يملكون لهجة مخارج حروفها عربية فصيحة.

           

الحقيقة أنها كانت أمازيغية قبائلية الأصل أبا عن جد. كنت أنظر إليها بدهشة وهي مستمرة في الابتسام، نظرت إلى نظرة عميقة وقالت "تفضلي بأسئلتك، ربما أدري ما يجول بخاطرك، لكن سيسعدني لو أعلم ما بخاطرك." صارحتها أنني أتعجب من اتقانها للعربية وحتى لإتقانها لأحكام التلاوة الصحيحة دون ارتكاب خطأ واحد. فأعلمتني أنها تحفظ القرآن كاملا، وأنها تعلمت العربية بأحد "الزوايا" في منطقة القبائل، بل وزادني دهشة حين عرفتني على أساتذة جهابذة في تعليم العربية كلهم من أمازيغ القبائل. أيقنت حينها أن معلوماتي يجب أن تُصحَّح وأن هناك مفاهيم خاطئة وجب تصحيحها.

       

هذا الحوار غيرني للأبد، بعدها جمعني الله بعديد من الأمازيغيات كلهم كانوا أهل فكر وقرآن، فتعلمت الكثير عن ثقافاتهم وتاريخهم الرائع الذي أيقنت أنه أيضا تاريخي 

في مساء ذلك اليوم تحدثنا كثيراً عن الحركات التي تدعو للانفصال وتشكيل الدولة الأمازيغية المنفصلة عن الجزائر. أعلمتني أن تلك الحركات ما هي إلا حركات مدعومة من طرف فرنسا وخصت بالذكر اليهود. واسترسلت في حديثها لتفضي إلى بأن كثير من الداعمين لهم من الشعب ما هم إلا فئات إما مغيبة أو عميلة، لأن كثير من أفراد هذه الحركات ينشطون أمام الثانويات وفي الأوساط الجامعية ليحشوا رؤوس المراهقين والشباب بمفاهيم وحقائق مكذوبة تشوه الإسلام بدرجة أولى ثم ذوي الأصول العربية على حسب قولها. ثم أردفت مؤكدة أن هناك حركات مضادة تكافح لتصحح وتصوب الحقائق لتقلل من نسبة العصبية التي تُنشرُ في تلك الأوساط.

     

صديقتي اقترحت على بعدها أن نقوم تحدي اللغة العربية الذي تقوم به مع صديقاتها وهو التحدث بالعربية لمدة ساعتين ومن يزل لسانها فتتحدث بالعامية أو بالقبائلية تخسر وتقوم بأعمال التنظيف، فضحكت ووافقت على ذلك. كان تحدٍ مذهل، فقد قرأت على شعراً ونثراً عربيين بأسلوب متقن وراحت تقرأ من أبيات ألفتها جادت بها قريحتها الأدبية الفياضة.

     

لاح في ذهني أن أتحدث بالأمازيغية فسألتها أن تعلمني ولو قليلا، بدأنا بنطق بعض الحروف بمخارج صعبة منها ما جربت نطقه أكثر من مرة. ثم تعلمت بعض الكلمات والجمل، ثم ألقت علي شعراً جميل اللحن أحببته يروي أسطورة أمازيغية عريقة. قصت علي بعدها قصتين من أشهر قصص الأمازيغ فتأملت في جمال الكلمات ودقة وصف الأمازيغ في قصصهم. لقد فتحت شهيتي لتعلم لغتهم لا لسبب إلا لأتحدث بها معها وأستمتع بحواري بلغة أخرى هي جزء من الموروث الحضاري والثقافي والتاريخي الجزائري.

        

كان مجرد لقاء، مجرد محادثة غيرت من نظرتي كليا لعرق بأكمله. أخبرتها حين كنا نلقي بآخر كلمات حديثنا قبل الوداع أن هذا الدين ضم العالم بين أحضانه ليذكرنا دوما أننا سواسية وأنه لا فرق بيننا إلا بالتقوى وأن التراب الذي نقف عليه يجمعنا فمنه أصلنا، أننا من نفس اللحم والدم فأبوانا كانا أبوي كل البشرية. نظرت إليها بسعادة، وقلت لها أنني أخرج من هذا الملتقى بدرسين، أولهما في الفكر ثانيهما في الإنسانية.

    

صرت أدرك أنه في كل مكان يقف نوعان من البشر، الفاسد والصالح، كل ما عليك هو البحث عن الصالح لتعرف أصالة ومحاسن كل عرق.  هذا الحوار غيرني للأبد، بعدها جمعني الله بعديد من الأمازيغيات من "الشاوية و القبائل و التوارق" و غيرهم. كلهم كانوا أهل فكر وقرآن وخلق وعراقة، فتعلمت الكثير عن ثقافاتهم وتاريخهم الرائع الذي أيقنت أنه أيضا تاريخي وحضارتي في وطن احتضن أجناساً وأعراقا لتثبت فينا آية اختلاف ألسنتنا وألواننا فنتعارف ونتماسك أكثر. لقد كان التقاؤنا تشكيلاً للوحة خلابة عنوانها "سواسية في الإنسانية".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.