شعار قسم مدونات

فوتومانيا.. عن الهوس بالتصوير

مدونات - سيلفي
شتّان بين الأمس واليوم وما أبعد الليلة عن البارحة؛ والأمس الذي أقصده يعود إلى أربعين عاما خلت، حين اضطُرِرتُ للمشي بضعة كيلومترات على أمل الوصول إلى أقرب محل تصوير في القرية بعد المجاورة، ومِن ثمّ الظفَر بستة صور شخصية صغيرة لازمة للتقدّم لشهادة المرحلة الابتدائية، وأتذكّر كيف كان وقت استلام تلك الصور فرحة جامِحة جامِعة هانت أمامها بضعةُ كيلو مترات أخرى مِن المشي والركض، وكيف أنّ إحدى قريباتي توسّلت للحصول على إحداها حتى طفرت الدّموع مِن عينيها، رغم أنّها –أي الصورة-في عُرف الجمال الشكلي لا تَبلغ حدّ القبول، أمّا البارِحة فتعود إلى أيام وفاة جدّي-رحمه الله- قبل نحو ثلاثين عاما، وكيف أننا لم نعثر له إلّا على صورة صغيرة مهترئة، بذل المصوّرُ فيها وقتا وجهدا لتصبح صالحة للمثول داخل إطار يُعلَّق على جدار الرحيل ورَفّ الوفاء.

أمّا في اليوم والليلة، وبعد أن اقتحمت الكاميراتُ الرقميّة كلّ زوايانا الحادّة والقائمة والمنفرِجة حتى باتت لا تخلو منها حقيبةُ امرأة أو بنطالُ شاب أو جيْب رجل، وبعد أن أضحت كبسةُ زرّ كافيةً لالتقاط عشرات الصور في ثانية واحدة، فقد انقلب الأمرُ رأسا على ذنَب، وأصبحنا نصارع طوفانا مِن الصور الفردية والجماعية التي غمرَت منصّات التواصل الاجتماعي وأغرقت مواقع تبادل الصور، لدرجة أن شهرا واحدا فائتا التقط فيه الأمريكيون ما يزيد على عشرة مليار صورة، وإلى حدّ أنّ أربعة أشهر فقط في عمْر إحدى الحفيدات كانت كافية لالتقاط ما يزيد على ألف صورة لها حسبما قالت الجدّة الموقّرة!

ولأنَّ في الجنون فنون، فقد تعدّدت المناسبات والأوضاع التي تُلتقَط فيها الصور، فكما وجب غسل اليدين قبل الأكل وبعده؛ وجب التصوير قبيل الطعام وبعيد التهامه، ولا مانع أيضا من التصوير أثناء الانقضاض عليه، وكما نطوف بالبيت سبع مرات في الحجّ والعمرة، فلا بد من التقاط سبعين صورة وربّما أكثر لتوثيق اللحظة أمام الكعبة وإشهار الحدث داخل الروضة الشريفة، ناهيك عن أوقات الفسحة والسفر والسمَر التي لا تصحّ ولا تجوز إلّا إذا تعطّرت بضوء الكاميرا وانبرَت على شاشة الجوال وشقّت طريقها إلى المعجَبين والمعلِّقين.

قال الرسّام الإنجليزي (جون راسكن):
قال الرسّام الإنجليزي (جون راسكن): "الكاميرا تُعمينا عن رؤية جمال ما يُحيط بنا، بينما الرسم يَجعلنا ندرس الجمال بدقة وتأمّل، عبر إعادة خلْق ما نراه في العالَم على الورق".

ويبلغ الجنون مداه حين يَلزم تمييز الصورة بحركات الوجْه التعبيرية مِن قبِيل إخراج اللسان أو ذمّ الشفتيْن أو ما شابه، أو حين يَلزم التصوير في لحظات حرِجة وأوضاع خطرة، كهذا الذي ألحّ عليه شيطان تصويره وهو على قمة جبل يبلغ ثمانية عشر مترا ففقد اتزانَه ولقي حتفه بين الصخور، وكهذا الذي طغت عليه النشوةُ أثناء القيادة السريعة على الطريق فاستقرّ به المقام أشلاء تحت عجلات السيارات، وكهذا الذي تفنَّن في تصوير نفسه أثناء الغوص فغافله الموج وخانه البحر فمات غريقا، ولعلّ هذا غيض مِن فيض وموجٌ في بحر ضمن حوادث عديدة كان وراءها جوال ذكيّ في يد غيْر ذكيّ.

وفي الوقت الذي تُفصح فيه استطلاعاتُ الرأي بين الشباب باعتبارهم أكثر الفئات تصويرا، عن أنّ الأمر عادي ولا يَعدو كونه ملفا للذكرى وجلبا للمتعة، ووسيلة للتشارُك وتوطيد العلاقات، وأداة للتعبير ومسايَرة العصر، فإنّ الخبراء النفسيين الذين دخلوا على خط الظاهرة بعد أن استفحلت فجاوزت المعقول وشارفَت حدّ الهوس والهستيريا؛ يُفسّرونها على أنّها إغراق في التعبير عن الذات وصل إلى طور النرجسية المرضية، وأنها تُنبئ عن ضعف الثقة بالنفس، وتفتح بابا لتعويض النقْص وإشباع غريزة التملك وجذب الانتباه والاهتمام، وتؤشِّر على الخواء الفكري والروحي، كما يتهمونها بأنها السبب وراء الارتفاع الجنوني في معدل إجراء عمليات الجراحات التجميلية نظرا للانشغال بالشكل واللهاث وراء الصورة.

كما أدلى الرسّامون بدلوهم باعتبارهم أولاد عمومة للصورة، فقال الرسّام الإنجليزي (جون راسكن): "الكاميرا تُعمينا عن رؤية جمال ما يُحيط بنا، بينما الرسم يَجعلنا ندرس الجمال بدقة وتأمّل، عبر إعادة خلْق ما نراه في العالَم على الورق"، والواقع أنّ اللحظات الجميلة تتمدّد بالتفاعل معها روحيّا وفكريّا وتتضاعف إذا أقبلنا عليها بكلّ حواسنا وعشناها بكل تفاصيلها، فالزمن لا يتجمّد والمُتعة لا تؤجّل والرياح إذا أقبلَت وجب اغتنامها قبل أن تُدبر ولا تعود، وعندها سيختزن العقلُ الذكريات وتنقشها الروحُ على صفحة الفؤاد، وتبقى جاهزة للاستدعاء حالما يَضنّ الزمن بالسعادة ويَغبرّ وجهُ الواقع، مع العِلم أنَّ الذكرياتِ يمكن أن تضمّد الجراح وتنعش الروح للحظات، بينما الإنجاز كفيلٌ بالحفاظ على عافيتِنا وإنعاشِنا على مدى الزمان.

العالَم بعد هذه الثورة الصُّوَريّة والانفجار الكاميراتي -إن جاز التعبير- لم يَعد أسعد حالا ولا أكثر تآلفا ولا أشد تعارفا عن ذي قبل.
العالَم بعد هذه الثورة الصُّوَريّة والانفجار الكاميراتي -إن جاز التعبير- لم يَعد أسعد حالا ولا أكثر تآلفا ولا أشد تعارفا عن ذي قبل.

يقولون اضحك لتكون الصورة أحلى، والواقع أن أجمل الصور وأنفعها هي صورة العقل لا البدن، وبالتالي علينا أن نفكّر لتكون الصورة أحلى ونعمل لتكون الصورة أنفع ونرتقي لتكون الصورة أجمل، ثمّ نصوِّر أفكارنا وأعمالنا في رأي أو كتاب أو منتَج أو إبداع أو اختراع، فالله لا يَنظر إلى صور ليس لنا دخْل في تشكيلها، بل ينظر إلى قلوب وُكِّلنا بسلامتها وبأعمال كُلِّفنا بها، وذلك حسبما ورد في الحديث الشريف: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".

لا شكّ أنّ الندرة تصنع القيمة، ولو كان التبرُ ترابا لما سجد أمام محرابه المال ولما اشتاقت لبريقه أجيادُ النساء، وعلى هذا فقليل الذكريات أجْدى مِن كثيرها وأدْعى لاسترجاعها والتمعّن فيها، والواقع يشهد أن آلاف الصور التي تملأ جوف جوالاتنا قلّما نجد الوقت والظرف للطواف عليها والمرور بطيفها، ويؤكد على أن العالَم بعد هذه الثورة الصُّوَريّة والانفجار الكاميراتي -إن جاز التعبير- لم يَعد أسعد حالا ولا أكثر تآلفا ولا أشد تعارفا عن ذي قبل، كما أنّ المنطق يتساءل عن جدوى إغراق ذاكرة الأجيال القادمة بهذا الإرث الثقيل مِن صورنا، ويتعجّب مِن الحكمة وراء كتم خيالهم بحضورنا الكثيف مِن أمامهم وخلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم، ويتأسّف لذكريات بلغت مِن الشمول مالو تمعَّن فيها اللاحقون من المحبين لتقطعت نياطُ قلوبهم ولَفتك الأسى بأكبادهم.

وهكذا يبقى السرَفُ مذموما في كلّ وقت وحال، حتى لو تخفَّى وراء شعارات تدغدغ العاطفة وتخطب ودّ الأفئدة، بينما يَبقى الاعتدال دستور حياة؛ وضَع بنودَه العليم بأحوال العباد، ودعا إليه الأنبياء والمرسلون، وتبناه المصلحون في كلّ صقع وحِين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.