شعار قسم مدونات

المدينة الفاشلة

blogs - مدينة في مصر
قد يكون الفارابي عاش في فترة اتسمت بالوعي وكثافة الإنتاج الفكري، (وإن كان لها بعض المساوئ) فراح يبحث ويصيغ تصوراته للحالة المثالية التي يمكن لمجتمعٍ أن يتصف بها، وتدفقت تصوراته في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" متخيلاً حالات المجتمع المثالي وكيف للناس أن ينعموا فيه بالسعادة مما يعني ضمناً أن أموراً أخرى كالأمن والعلم والمال في عصره كانت متوفرةً لدرجةِ أنها لا تستحق الخوض في سبل تحصيلها.

أما في عصرنا اليوم فإننا أبعد ما نكون عن مدينة الفارابي الفاضلة، بل وحتى مدينته التي عاش فيها، نحن اليوم نتخبّط في نفقٍ مظلمٍ من الفشل والتأخر وضنك العيش حتى أصبح ضرباً من الجنون أن يتحدث أحدهم بحديث الفاربي عن "مدينةٍ فاضلةٍ"، وربما لو عاش الفارابي في زماننا لرأى من الأجدى أن يتحدث بدلاً من ذلك عن المدن الفاشلة التي نعيش فيها، مدن يبرع أهلها في السير إلى نصف الطريق، تكثر عندهم الدراسات والخطط والتصورات مؤرشفةً في انتظار التطبيق، تكثر المشاريع وتندر الإنجازات، حتى إنهم يطبقون نصف الحِكَم والأمثال، هم يؤمنون أن "فهم المشكلة نصف حلها" فالكل يعرف المشكلة ويسهب في وصفها وتحليلها، ولا أحد يجرؤ على مناقشة الحلول، لماذا يا ترى؟! ربما لأنهم جميعاً جزء من المشكلة، ولأن الحلول ستمسُّ الجميع بشكلٍ مباشرٍ، أو ربما خشية من يقفون وراء المشاكل، وفي كلتا الحالتين ستظلُّ المشاكل وسنظلُّ نصِفُها بدقة ونصمت عن الحلول.

ستظل مدننا فاشلةً وستنتج أجيالاً تعتبر هذا الفشل هو القاعدة وما غيره شذوذ، ما لم يتحلَّ أهل هذه المدن بالمبادرة لقلب هذه الموازين ورفض من يتمسّك بها بعض النظر عن قرابته أو مكانته.

في المدينة الفاشلة لا حدود للاختصاص ولا أحد يقيم له وزناً؛ فترى الشيخ يتكلم في السياسة والحِرفي في الطب والطبيب في الفنون والأديب في الفيزياء والجميع يتكلمون في الدين؛ فهو الحلقة الأضعف والكل يعتبر أنه يفهم الدين بشكلٍ مثاليٍ وغيره على ضلال، فتكثر الفِرَق ثم يبدأ كٌل بالتعصب لفرقته ويصب نيرانه على الفِرَق الأخرى، الكل مستبدٌ برأيه وغير مستعدٍ لسماعِ أي تعقيبٍ على آرائه أو حتى نصيحة، هم يؤمنون أن اختلاف الرأي لا يُفسِد للودّ قضية بل ينسف الودّ من جذوره فالحوار في المدينة الفاشلة يعتمد على المُحاوِر وليس على الفكرة، وأهداف الحوار لا تتعدى فرض الرأي وإظهار السيطرة بعيداً عن أي حقيقةٍ منشودةٍ أو فائدةٍ مرجوةٍ، لذلك تجد مراحل الحوار بسيطةٌ وسريعةٌ: اثنان يختلفان في الرأي فيتبادلان الشتائم، ولمّا ينجلي نقع الجدال يتشاركان وسادة الإنكار ويغمض كل منهما ضميره قائلاً من هو ليُخَطِّئني.

الناس في المدينة الفاشلة يحبون التباهي كثيراً مع افتقارهم لما يتباهون به ومع ذلك تجدهم يسرفون في التباهي بأي شيء، حتى إن الفاشلين يتباهون بأنهم أقل فشلاً من غيرهم، ربما هو تصرفٌ غريزيٌ لتعويض شعورِ النقص الناجمِ عن الفشلِ المتجذرِ في المجتمع، أو ربما هو قناعٌ قبيحٌ يُغَلِّفُ أحلام شخصٍ لم ترقَ همّتُهُ لتحقيق طموحه فاستعاضَ عنها بتباهٍ أجوفَ غايتُه أن يُلبِسَ الفشلَ أثوابَ الإنجازات.

يتجذّر في هذه المدن تولي غير الأكفياء للمسؤوليات والمهام الضرورية والمناصب العامة، وعندها بالضرورة سيتساءل الجميع "لماذا لست أنا؟!"، فهو يرى أن المسؤول لا يتمتع بأي صفات أو مؤهلات تميزه، ثم ما إن يشغر منصب هذا المسؤول حتى يلتحم الجميع في تنافس محموم لوراثة منصبه فترى المؤسسات وكأنها جسدٌ ذو رأسٍ واحدٍ وأرجلٍ كثيرةٍ فإن ذَهَبَ الرأس استحالت كل الأرجل رؤوساً وليس لها أرجلٌ لتسير بها فينشغل الجميع بالمؤامرات والدسائس على حساب العمل والإنجاز.

مع ما سبق ذكره من تجليات الفشل في مجتمعاتنا من انعدام الإصرار وعدم توسيد الأمر لأهله وانغلاق آفاق الحوار وغيره؛ ستظل مدننا فاشلةً وستنتج أجيالاً تعتبر هذا الفشل هو القاعدة وما غيره شذوذ عنها، ما لم يتحلَّ أهل هذه المدن بالإرادة والمبادرة لقلب هذه الموازين ورفض من يتمسّك بها بعض النظر عن قرابته أو مكانته، والأهم هو عدم التأثر بقلة المبادرين إلى التغيير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.