شعار قسم مدونات

مشروع تخرّجي.. عمَّ يكون؟

blogs-graduatt
لا يكفي أبداً ان ألتحق بالجامعة فحسب، فبمجرد الجلوس على مقاعدها الدراسية، تحاصرني الأحاسيس بالمسؤولية، إنها مسؤوليتي تجاه ربي، ونفسي، ووطني. 
            

إن الكتب الجامعية ليست مجرد صفحات مملوءة بالكلام والصور، ولكنها مرآة لي أستطيع ان أرى نفسي من خلالها بعيداً عن التصنّع، والتكلّف، والتمثيل، إنها السبيل لكشف الذات، للسير بين فجواتها الغائرة طالما اجلس تحت سقف الجامعة كل يوم. 

       

يتردد كثيراً إلى مسمعي صوت الدكتور وهو يقول" لقد أصبحتم في العام الدراسي الأخير، العام الذي تحددون فيه مصيركم، لذا عودوا إلى حيث نشأتم وفتشّوا بين أرجاء مدينتكم، علّكم تستطيعون خدمة وطنكم بإنشاء مشروع إنشائي فيما بعد".

         

لكن مشروع إنشائي واحد لا يكفي لخدمة وطني، إنني من مدينة وَلَدت فيها الحرب، مدينة يخنقها العجاج، ففيها هُدمت صوامع، واهتزت مبان، وانهارت بيوت، وحُرِّقت مساجد، إنها مدينة لا تكاد تسعها مخيلتي ، فأنا أضيع بين أضلعها كل يوم مائة مرة ومرتين.

               

إن مجرد التفكير بالخوف يفقدنا قوتنا، وهيبتنا أمام هذا العالم الصامت، لذا يجب علينا أن نصيغ كلماتنا بحنكة، حتى نجعلهم سارحين في قضايانا ولو لمرة واحدة في التاريخ

كان على العالم أجمع بألا يفرض فكرة مشروع التخرّج على طلاب المدن المغتصبة، كي لا يجيشُ الحزن عندهم، فيتراءى لهم شبح الموت البارد، الذي لا يشعر به إلا المغتربين عن أوطانهم، فمَن سمع عن هذا النوع من أنواع الموت ليس كمّن أحسّ به. 

          

كثيراً ما أفكر بالإتيان بفكرة جديدة، ولكن ذلك لا يليق لطالبة هندسة مدنية هُدمت مدينتها بشكل شبه كامل، إنني أخشى أن أكون أنانية للحد الذي يجعلني أكتفي بمشروع واحد فقط، وأنسى بذلك ما قد خسرته مدينتي.

            

ينتابني الشعور بتأنيب الضمير كلما جعلت أفكر بمشروع ما، إننا في عصر نحتاج فيه لمشاريع، كي نعيشُ وتعيشُ أوطاننا، فحبة واحدة من الرغيف لا تسمن ولا تغني من جوع، ولكن ليس فينا مَن يملك الجرأة الكافية كي يقترح فكرة إعفاء البعض عن تقديم مشاريع التخرّج.

                

إننا بحاجة إلى قليل من القوة التي تجعلنا نفكّر ببراعة، ونروي للعالم ما لا يُقال، ولكن بالإسلوب الذي يجعلهم يقرأون رسائلنا وكأنهم يقرأون الصحف اليومية، فيمضون يومهم بالتفكير في تفاصيل كل كلمة خطّها مدادنا، ولكن دون أن يشعرون بالضياع بين السطور، وفي ذات الوقت نوصل لهم كل ما نريد إيصاله، ولا نجعل للخوف متسع في قلوبنا، فإن مجرد التفكير بالخوف يفقدنا قوتنا، وهيبتنا أمام هذا العالم الصامت، لذا يجب علينا أن نصيغ كلماتنا بحنكة، حتى نجعلهم سارحين في قضايانا ولو لمرة واحدة في التاريخ، إننا نريد أن نشرحها ولكن دون أن يشعروا بذلك، لربما يصحى الضمير الذي يأبى أن يغرق في سباته العميق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.