شعار قسم مدونات

ما بين هجرتين

BLOGS-travel
منذ هجرتي إلى ألمانيا وأنا أبحث عن صديقة، عن فتاة حقيقية يمكنني فعلاً أن أتخذها صديقة مقربة لي، تطوي عليّ وحشة الأيام وغربتها في بلاد الصقيع، مرت الأيام و أصبحت سنين، و ما من رفيقة دربٍ بعد، قابلت الكثيرات، جلست معهن، لم أكن أعلم حقاً بأن مهمة البحث عن الأصدقاء بهذه الصعوبة، لكن ما لفت انتباهي هو قدر اليأس الذي لمسته في قلوب هؤلاء المهاجرين إلى هنا (المهجّرين إلى أوروبا )، كنت ألمح في عيون أغلبهم أملاً قد خفت نوره، ألمس في حديثهم شيئاً من الاستسلام لواقع أرغموا عليه، كنت أشعر بينهم وكأني جالسة بين كومة من الأموات، أحاديثهم خالية تماماً من الحياة، جردهم الطاغية حتى من أحلامهم.

   

نحن كسوريون تهجرنا وسلكنا أصعب السبل للوصول إلى بر أمان يحتوينا، جئنا وفي نفوسنا تقبع آلاف من الأمراض التي خلفتها الحرب لنا، لكن لمَ؟ ونحن أصحاب الحق والقضية، لمَ هذا الاستسلام والهوان المزروع فينا؟، لا أنكر أبداً بأن قسماً لا بأس به منّا صنع المعجزات في بلاد المهجر، لكن لمَ لسنا جميعاً كذلك!، المشكلة تكمن فعلاً في عدم إدراكنا لغرض وجودنا على هذه الأرض، وُجدنا هنا ليس لإعمار سوريا فحسب، ولا أي وطن دون الآخر، نحن هنا يا رفاق لإعمار الأرض برمتها، لا يهم من أين أتيت، ولا يهم من أكون أنا، المهم هو أن أزهر من مكاني الآن.

          

لا أحب أولئك الذين يسكنون عتبات الأطلال، هم كالعالقين فعلاً، عالقين بين هنا وهناك، أولئك هم أسرى الحرب الحقيقيون، الذين اختاروا لنفسهم جلد الذات بالذكريات والأطلال التي لا تسمن ولا تغني من جوع الحنين والفقد. لقد عبثت الحرب في كل شيء، عبثت في بيوتنا وعائلاتنا وأخذت أحباباً لنا، جردتنا من أوطاننا، لكن لن نسمح لها بالعبث بأرواحنا وعزيمتنا وإقبالنا على الحياة، لن أكون قارباً شراعياً ينتظر رياحه المناسبة، سأكون أنا الرياح، سأحرك آلاف من القوارب الشراعية إلى بر الأمان.

      

لن تكن الغربة يوماً أحن من الوطن، فلا ترجو أن تلين عليك الأيام في غربتك وأن تتحسن ظروفك كي تبدأ بالعمل والحلم، دع روحك تزهر في كل مكان، لا تقيدها بأرض ولا بحنين

هو هاجر مثلنا، وفي ظروفنا ذاتها، هاجر مرغماً من حبيبته " مكة المكرمة "، هاجر في سبيل رسالة وقضية وفكرة، ترك من أجلها أرضه وموطنه ورحل، عاش في هجرته سنيناً طويلة، لم يسمح بالحنين أن يتحكم بقلبه، هاجر ليعود قوياً فاتحاً أكثر عدّةً.

     

لم يعد يرضى لنفسه أبداً أن يعود إلى مكة كما كان، بل عاد سيداً لها، عاد ليأخذ مفاتيحها، جلب معه أمة كاملة وحضارة متكاملة، عاد إلى الوطن وقد صنع له أوطاناً بعد هجرته، فكان له مكة المكرمة والمدينة المنورة معاً، أحبّ المدينة حتى أنه طلب أن يوارى جثمانه الشريف في أرضها، هو هاجر، ونحن ماذا! لقد هاجر وحيداً منكسراً، وعاد بأمة، عاد بجيش من المهاجرين معه، هو صاحب هذه الأرض، لقد أزهر في المدينة وامتدت حقوله إلى مكة وإلى العالم بأسره.

        

أين نحن من هجرته؟ لا تقولوا لي أن نبوته كانت هي المعجزة، فلو كانت كذلك ما كان أصلاً احتاج للهجرة، بل كان طلب من ربه أن يأخذ مفاتيح مكة على طبقٍ من ذهب، لكن سبحانه وتعالى أراد أن يكون لنا في رسول الله أسوة حسنة.

       

لقد هاجروا وهاجرنا، أما هجرتهم أزهرت عنها حضارة إسلامية امتدت ليومنا هذا، وهجرتنا أنستنا القضية، بعضنا من انسلخ عن أصله وباع الآخرة بعرض من الدنيا، فكم من فتاة خلعت حجابها بعد هجرتها لترضي المجتمعات الغربية أو خوفاً من أن يكون حجابها عائقاً أمام اندماجها مع هؤلاء الغربيين، وكم من شاب هجر صلاة الجمعة في المساجد خوفاً من أسئلة محرجة أمام رفاقه الجدد، أهكذا يفعلون أصحاب القضية؟

       

هاجروا وهاجرنا وشتان ما بين الهجرتين، هاجرنا منكسرين وسنعود منتصرين، نحن أصحاب القضية، أصحاب الحق والأرض. لن تكن الغربة يوماً أحن من الوطن، فلا ترجو أن تلين عليك الأيام في غربتك وأن تتحسن ظروفك كي تبدأ بالعمل والحلم، دع روحك تزهر في كل مكان، لا تقيدها بأرض ولا بحنين، دع الألم جانباً واعمل لغدك، ولتكن هجرتنا بداية لنا، وليست المحرقة لا تكن عالقاً بين ماضيك وحاضرك، احلم فللحم بقية.

     

صديقتي لقد وجدتك أخيراً، أحببتك لأنك حالمة، لأنك قوية، طالت رحلة بحثي عنك يا رفيقة، لكن تلاقت أرواحنا المهاجرة، أحبك يا بشرى سعادتي، يا رائحة ياسمين وطني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.