شعار قسم مدونات

الفلسطينيون المنقرضون.. قصة المستقبل

مدونات - علم فلسطين
عدد الدراسات التي تم عملها لقضية فلسطين ومعطياتها، أكثر من دراسات دول الوطن العربي أجمع، فبمجرد دخولك لمكتبة ما سترى كافة المشاريع الفكرية والسياسية مليئة بمحاولات رامية لبناء نجاح جديد للقضية الفلسطينية مرة ومرة ومرة إلى أن تبتلع "المرة" نفسها. ودخلت فلسطين المراحل الاعتبارية التي كان الزمن المُصطنع يفعلها، كنايةً عن التحرر الشامل والعودة الى البلاد، ومضمون هذه المراحل كان تفكيك الوضع التفكيكي "التنوع والاختلاف" في تفكيك الانسان نفسه، وكأنه تفكيك لامتناهي للظاهرة.

يسعى المقال إلى مأسسة وتناول المسائل "الجيولوجيا السياسية الجمعية" ولكن بمقاربات خارجة عن علم الطبيعة، لأن هذه المسائل ستحمل منظورات مختلفة تماماً عما كما كنا نفكر فيه ونكتبه بالدراسات التي تُذاب قبل حفظها، فاختيار الجيولوجيا لارتباطه بالانقراض والارض، واختيار السياسية لارتباطها بالسلطة ومن يقودها، والجمعية لأنها متعلقة بروح الشعب، ومرة أخرى مبدأ الانقراض متعلق بفكرة الحياة والبقاء ومبدأ السياسة متعلق في من سيقود ويحمي ويتطور هذا البقاء، ومعيار الجمعية مرتبط بروح الفكرة الواحدة للحضارة.

1- أزمة الوعي
دخل الفلسطينيون في حُقب لا متناهية ذات طابع صراعي محدود ضمن رزمانة اشتملت كل معطيات القضية الفلسطينية، وتطلب خوضها أكثر من 80 عاماً بلا فائدة على صعيد الاتفاقيات وظهور الحركات السياسات الجديدة. ولكنهم لم يلزموا الفعل النقدي الذي يجب أن يُفهم كفحص ذاتي ومستمر للعقل الفلسطيني، فمثلاً دخول العالم الإسلامي في التاريخ الحديث أي بمعنى في العالم المعاصر الصناعي والرأسمالي، إلى هز التوزان الداخلي في منظومة المجتمع لدى الاسلام، فبدأ في فقدان دوره شيئاً فشيئاً. ومن هنا عندما تشكلت الهوية الفلسطينية مُنذ بداياتها تشكل العقل الفلسطيني وبحث عن الحرية والكفاح والأرض والعودة، ولكن كان في كل نقطة يشكل ضعف هو من صنعه بنفسه، وبمثال جدير ذكره كان اوسلو هو الحل أي بمعنى الحكم الذاتي للفلسطينيين هو الحل.

الثقافة في أزمة، لأن المثقف أصبح يخون دوره ويرتد على طبيعته، ويذهب إلى طريق لا متناهي في الظواهر، ويعيش حالة اغتراب مع الثقافة.

في هذا الممر افترض الفلسطينيون أن الحكم الذاتي هو الحل، هذه الصياغة كانت زائفة نسباً إلى المشكلة الرئيسية، فأثارت حركة التفكك والتشكك الوعي القائم على فكرة التحرر، حيث أنها تجسدت في البحث عن تكيفات جديدة لمسألة التحرر والكفاح الخفي، وبذلك تم صناعة الوعي الزائف لدى الفلسطينيين. قال ماركس: "ليس وعي الناس هو الذي يحدِّد وجودهم، بل على العكس من ذلك.. إن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدِّد وعيهم"، ماركس كان يقصد بأن الافكار هي التي تساعد الناس في تشكل وجودهم. ولكن أي أفكار ستساعدهم أن كان هناك خلاف شامل علمي وفلسفي اجتماعي بين الفردانية والجمعنة الفلسطينية، فالحركات السياسية أصبحت قائمة على الانحيازية العلنية المفصومة تجاه الرؤية التحريرية، والفرد الفلسطيني أصبح منفصل ومكتف بذاته على فهم الظاهرة، فتوجب على الفرد التعارض مع الجمعنة التي لا تمثله أصله وتهمشه، فيراها صورة تعارض إرادته الحرة وتجلياته الغريزية.

2- أزمة الثقافة
كل الفوضى والرجّات السياسية والاجتماعية التي يعيشها الفلسطينيين شكلت أزمة لدى المثقف ودوره تجاه الثقافة أي بالأحرى أصبح إنساناً فارغاً. يبرز عيش الفلسطيني الآن في ميلاد الانفصالات وتكاثرها ولا يجرى لها إعادة تأصيله، فالنخبويون أصحاب الريادة السياسية ساهموا في تكريس الفكر الانقسامي وعلى تفكيك القضية الفلسطينية إلى مسائل معقدة. وتشكل في ذهن القضية الفلسطينية سؤال مركزي عفوي، "هل تشهد المرحلة المعاصرة الراهنة ميلاد الناشط السياسي وموت المثقف على غرار موت المناضل مع البنيوية ؟".

الثقافة في أزمة، لأن المثقف أصبح يخون دوره ويرتد على طبيعته، ويذهب إلى طريق لا متناهي في الظواهر، ويعيش حالة اغتراب مع الثقافة، وفي هذا العيش لا يمتلك إلا خيارين، الصرف الزائد في الأكاديمية التقليدية التي تعمل على تراكم المفاهيم العلمية وزيادة رفوف الكتب، أو الشرك مع المؤسسات البحثية الروتينية التي على استمرار إنكار النقد و تساهم في تدهور المجتمع وتمزيقه وانقسامه، نتيجة ذلك الثقافة أصبحت في يد حاملها توظيف فقط، وتم تحديد علاقة المثقف في الثقافة هي علاقة عمل وظيفي في جهة ما.

المشكلة الرئيسية تكمن في تحول الثقافة إلى ثقافة ذات موضوع تحرير أو ثوري، ولم تمتلك هذه الثقافة عنصر الاندماج مع حاجات التكيف للوضع الجديد والحفاظ على الهوية الثقافية الفلسطينية، فعملت الثقافة المصطنعة على انتاج معارف وافكار "متخلفة" متناسقة أسهمهم التجارية على صورة الثقافة الأصلية، فتحولت الصورة الذهنية للثقافة هي الفكرة الفضفاضة التي شلت عرض القدرة على البحث.

كل الأزمات علمت على إلغاء حرية الوعي وحرية الثقافة وحرمان المجتمع في وسيلة التفكير في مصيره ومستقبله، فتسبب ذلك في تراكم المشاكل الاجتماعية والسياسية حتى أصبح من المستحيل حلها إلا بانفجار تلك الأزمات.

3- أزمة الفكرة "فلسطين"
في سراب الحلم والسباحة في الخيال وضع فرضيات وسيناريوهات لفلسطين سواءً تقدير موقف ما، وتحليل لسياسات ما، ما هو ألا نتاج رائع بحق ولكنهُ لحظي إلى حداً ما، فنتاجات هذه الأعمال عملت على انفجار الخيال التي ولد حالة البؤس لكافة المجتمع كما شحت الأفكار الأكثر ارتقاءً وثراءً، والإبداع هو الأزمة في ضل العدمية التشاؤمية. هذه المولدات صنعت الشكوى المستمرة لدى كل الفلسطينيين تجاه قضيتهم وحالهم، فالتصور الواضح لديهم هو اللذة نحو العيش بالتناقض مع عقيدة حماية الدولة أو المجتمع.

اندثرت علاقة الاستقرار بين الجمع الفلسطيني وأيضاً تشكلت الهويات الفرعية المكتفي بها أصحابها، وحركة الأخلاق على خلاف كامل مع القيم الإنسانية لدى البنية المجتمعية الفلسطينية، الخلاف عمل على تكوين صورة تتضمّن تمييزاً بين الأفضل والأسوأ، بين ابن الحزب واللاجئ ابن المخيم، ممّا يخرق على ما يبدو المبدأ الديمقراطي المساواتي في قيمة التسامح. لهذا السبب يهتم الفلسطيني الحديث خصوصاً بصحّته وأمنه الشخصي، لأن فكرة فلسطين رأي ولا تشكل حقائق كأمنه الشخصي.

نظرة الرأي العام لفكرة التسحيج التي ظهرت مؤخراً ما هي ألا سلاح غفران لذنب المظلومين أو ضمير مركب يهدف إلى توفير الحاجة الطارئ لديه، والقائد المتواجد هو نموذج لسلاح استحقاق الأمل الوهمي في هذا الوطن الفوضوي، يغدو القائد بعقوبات خفية أو مرئية تجاه مواليه الأذكياء الذين يعلمون بكافة شيء وتستمر المشاحنات بهم وأيضاً الاحساس الذي يعمل بطريقة مغايرة مما يقودهم إلى مأوى المجانين.

كيف سينقرض الفلسطينيون؟
في ظل أزمة الوعي والثقافة والفكرة التي تمحور في الحالة الفلسطينية بشكلٍ سائد، ستعمل على قتل الفلسطينيين كفكرة، فكل الأزمات علمت على إلغاء حرية الوعي وحرية الثقافة وحرمان المجتمع في وسيلة التفكير في مصيره ومستقبله، فتسبب ذلك في تراكم المشاكل الاجتماعية والسياسية حتى أصبح من المستحيل حلها إلا بانفجار تلك الأزمات، العقل الفلسطيني تعلم الكثير ولكن في هذا الوضع الراهن أصبح "حليماً حيرانا"، وبمعادلة آخرى سيمر الفلسطيني عبر مرض التفكير المصاب بالترهل مما يشكل له سلوك وسواسي يسعى إلى نفي نفسه إلى بلاد آخر أو خلو الأفكار والبقاء جاهلاً إلى أن يموت دون قوةً أو تماسك بعقيدة الوطن.

الدولة والوطن الصهيوني عمل على جذب وظيفة حقيقية في مستنقع فكري وبتطرف مائل، لعامة الشعب الفلسطيني، عبر أدوات لم يتخيلها إنسان قط مستهدفاً كل عقل فلسطيني، مصطدماً بالنخبة والعامة، ومجاراته من وعي زائف إلى ثقافة لا تقبل النقد وذات معرفة ناقصة وصولاً إلى الانقراض. وفي سياق آخر فلسطين في المتحف كجزيرة اطلانطس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.