شعار قسم مدونات

لاتتغير أشياء كثيرة برحيلهم

blogs - فراق

تحت رعاية القضاء، يصرف النصيب أقدارا تكسر تفاهة ما نعيشه ليخلق ما يعيش فينا، يهدم حاضرا بينما يرمم أطلال ماض ويختم قصصا ليخلق أخرى لا تشبه التي سبقتها.. قصص لا تُسرد إلا بلسان متلعثم بالوجع وصوت مرتعش بالحسرة، تسبب مرارة في الحلقوم حين تُحكى وغصة في القلب حيت تُطمس.

تلك القصص التي تهز كيان المتكلم وهو يتحدث عن الغائب الذي لا يغيب، تميته حيا وهو يحيي ميتا، تدفعه للنظر قربه لرؤية ما أصبح بعيدا.. بعيدا جدا.. تكويه بنار تفاصيلها الحارقة تم تجمده بنهاياتها الباردة، تبث فيه الروح للحظات حين يسرح خياله منتشيا بأجمل أجزاءها وتخنقه حين ترجع به إلى اللحظة حيث توقف الزمن.. حيث انقلب الكون وتغير كل شيء.

في الواقع لا تتغير أشياء كثيرة برحيلهم.. هو فقط انطباع يغمرنا، إحساس يشبه المد يبدو بعده الكون فسيحا جدا لدرجة تتيُّهنا، ثم آخر يليه، أقرب إلى الجزر، يجعلنا نحس أنه تقلص بقدر يجعله غير قادر على استيعابنا.. صدر يفيض بمشاعر صاخبة تنفجر داخله مدوية ثم تخمد في انصياع يغلفه الخذلان والوهن ورأس يكتظ بالأفكار التي تتشتت هاربة ليستحيل جمعها.

لا تتغير أشياء كثيرة برحيلهم،

لا تتغير أشياء كثيرة برحيلهم، عدا الضعف الذي نستشعره أكثر من ذي قبل والذي يجعلنا ندرك أن لاحول لنا ولا قوة.. العجز الذي يجبرنا على البكاء

لا، فلم تتغير أشياء كثيرة بعد رحيل الذين رحلوا.. عدا تلك الطقوس الجديدة التي تبنيناها فجأة، تلك الحيثيات التي أصبح لها ألف معنى، ذلك الشوق الذي أصبح يضخم فجأة ويتعب أرواحنا بالكامل، تلك اللهفة التي تعكس كم نتوق إلى تقفي أي أثر ينتمي إليهم وتلك النظرة التي نحنو بها نحو كل ما يذكرنا بهم.. تلك الرغبة التي وُلدت فينا وجعلتنا نتمرد محاولين تحطيم المسافات بين الوجود وما وراءه، عاجزين عن إيقاف شريط الحياة الذي يتباطأ حد الموت ثم يهرول بسرعة.

لم تتغير أشياء كثيرة بعد رحيل الذين رحلوا.. بصرف النظر عن تلك الأحلام التي لم نكن ننسجها من قبل والكوابيس التي أصبحت تؤرقنا في اليقظة والنوم، تلك الصور التي أصبحنا نتأملها وأرواحنا تعانق أرواح من فيها والأصوات التي يصلنا صداها فقط ونتمزق لسماعها بحق.. تلك المحبة التي غدت أصدق وأنبل وتلك العروش التي دشناها لأجلهم ثم نصبناهم ملوكا عليها لا شريك لهم فيها ولا خليفة.

لم تتغير أشياء كثيرة بعد رحيل الذين رحلوا.. غير تقديرنا لجمال حضرتهم وامتناننا لمعرفتهم، إدراكنا بأن فقدانهم خسارة لا تعوض، ثم حاجتنا لأن نخبرهم بكل ذلك.. لم تتغير أشياء كثيرة غير الحنين.. الحنين فقط، وبعض من الندم… يتسللان معا لنتأرجح بينهما مستسلمين، بين ما قيل وما لم يٌقل، ما كنا نود فعله وما فعلناه.. بين الكلمات والنظرات والدموع والضحكات والزمن والمكان والخيال والحقيقة.

لا تتغير أشياء كثيرة برحيلهم، عدا الضعف الذي نستشعره أكثر من ذي قبل والذي يجعلنا ندرك أن لاحول لنا ولا قوة… العجز الذي يجبرنا على البكاء ونحن نتذكر أن الحرقة لن تنطفئ مهما اشتعلنا غضبا، أن الصوت لن يصل إن اتصلنا، أن رصيد العمر هو ما نفذ ليحول دون وصول الرسائل ولا المحادثات ولا المكالمات.. حين نتذكر أنه بلا ثمن، أن لا مجال لتعبئته من جديد مهما حصل.

لم تتغير أشياء كثيرة برحيل الذين رحلوا.. غير كونهم رحلوا دون أن يرحلوا، عدا ذهابهم إلى طرف آخر نحيا على أمل لقيانا بهم هناك

لا تتغير أشياء كثيرة برحيلهم، غير المسافات التي تصبح زمانية لا مكانية، والأيام التي تصبح متثاقلة متعبة، والوجوه التي تصبح في ذهننا جامدة لا تتحرك، والذكريات التي تصير موجعة فاقدة قدرتها على رسم ابتسامة تعكس الأمل في كون اللحظة قد تتكرر يوما.

لا تتغير أشياء كثيرة برحيلهم، غير الحاجة التي تجتاحنا.. حاجة الى ملء فراغ مهول يتركونه خلفهم، حاجة لأن نخبرهم كم كنا نحبهم ونسعد بتواجدهم، حاجة لإيجاد ما يمكن أن يسعدهم حيثما وجدوا، للقيام بخطوات أجلناها، لتوضيح أشياء سترناها، وللتشبث أكثر بآمال علقناها.

لا تتغير أشياء كثيرة برحيلهم، هو فقط توق إلى تقبيل الأرض، ضمها إلى صدورنا وحضنها لكونها تحتويهم.. نزوع إلى رؤية السماء مختلفة، نتحسس فيها وجودهم ونلمس فيها القدسية والنقاء.

لم تتغير أشياء كثيرة برحيل الذين رحلوا.. غير كونهم رحلوا دون أن يرحلوا، عدا ذهابهم إلى طرف آخر نحيا على أمل لقيانا بهم هناك، لنخبرهم عن تلك الأشياء الصغيرة التي تغيرت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.