شعار قسم مدونات

رابعة .. حين شربت الأرض الدماء!

blogs - rabaa
وكان الجميع قد أجمع أن الأرض لن تشرب دماء الأحرار، وأن الصرخات التي سمعناها يوم الفض ستظل معلقة في السماوات نراها كل يوم تصم أسماع القوم وتكدر عيشهم، كنا على ثقة بأن هؤلاء في السجون لن يطول بهم المقام هناك وأن تلك السنوات الفلكية التي يحكم عليهم بها لن ينقضي حتى أولها حتى يكونوا بيننا من جديد.
           
 لن أنسى الغضب في نفسي والارتعاشه في يدي والضيق في أنفاسي وأنا أسمع أسماء الشهداء ممن أعرفهم واحداً تلو الآخر، كنت أقسم أن التاريخ سيتوقف في ذلك اليوم، نعم ستقف الحياة بكل أشكالها ولن يعود شيء كما كان بعد اليوم! كنا ضحايا ولكن ثقتنا في كل هذا كانت ثقة المنتصرين، كانت ثقة لا إرادية لا أمر لنا عليها ولا نهي، نحن على الحق وأخذنا بكل الأسباب -أو هكذا كنا نظن- فلابد أن يكون هذا هو التمحيص الأخير وغدا تشرق تلك الشمس التي لطالما وعدنا بها كبار القوم.
       
ثم طال بنا الأمد وتكشفت لنا الحقيقة كأقسى ما يكون. إن الأرض تشرب دماء الضحايا وبنهم شديد ما دام أولياء الدم قد نسوه واختلفوا فيما بينهم. إن الصرخات لم تجد من يترقبها في السماء فقد انشغل القوم بمعايشهم عنها فعادت في صدور الثكالى والأرامل تسرق من عيونهم النوم ليلاً، عادت إلى زنازين المبعدين تصم آذانهم وتعاتبهم على أملهم الزائف لا ترحم منهم مستوحشاً ولا صبياً صغيراً! بل وعادت الحياة كسابق عهدها لم يتوقف الزمن لينتظر تلك الجراح حتى تلتئم وتلك الدموع حتى تجف!
                    
ذكِّر من نسى منا أو تناسى بأنه ليس نهاية الطريق أن نكون ضحية، وما مضى كان معركة خسرناها فقم واعتذر لربك بما استطعت من العمل، ولا تنسى فنسيان الدماء في عرف الرجال حرام!

إنها حقيقة جديدة لم نعهدها من قبل. إن الأرض والسماء والتاريخ والكون كله لا يعبأ بما في خاطري وخاطرك لا يعبأ ببكائي أنا وأنت وحدنا في الليل نفتقد إخواننا وأهلنا. لن تتأخر سنة الله في كونه من أجل فرد مهما عظم إيمانه بقضيته، إن الله لم يأمرنا أن نستجلب نصره ببكائنا ونواحنا بل ولم يقرن النصر فقط ببذل الدماء أو طول الإقامة خلف الزنازين، إن ذلك النصر له أسباب قوة نستجلبه بها وذلك الكون والتاريخ له لغة ينصت لها.

           

وها هو الأمد قد طال بنا لتمر على أولئك السادة سنين أربع في جنات الخلد -نحسبهم كذلك- وطال بنا الأمد فقست قلوبنا واستطبنا العيش بعدهم. وكعادة الذكرى في كل عام سيرتدي البعض أزيائهم الرسمية الأنيقة ويخرجون بعبارات منمقة قوية الألفاظ يؤكدون على ثبات وصمود وقوة عقيدة وعزم يناطح قمم الجبال، ليس في أنفسهم فقط لا بل للمعتقلين في زنازينهم والأمهات الثكالى في بيوتهم والحرائر في أسر الطواغيت.

          

سيوزع أولئك المنمقون في عباراتهم الثبات كما يحبون على الجميع سيخبرونك أننا على الطريق وأن كل ما مضى كان الضريبة الطبيعية للنصر ولم يكن هناك سبيل آخر! فلا تسمع لهم ولا ترضى بكلامهم -رعاك الله-. أما والله فإن حالنا لن يصلحه ادعاء الثبات ولا تصنع العزم.

                      

إننا منهكون يا أخي منهكون جداً ولا سبيل لعزتنا ولا لزوال ضعفنا وهواننا إلا بما أمرنا الله به. كل على ثغره يعمل وبما استطاع يجود تحدونا تلك الدماء وذكِّر من نسى منا أو تناسى بأنه ليس نهاية الطريق أن نكون ضحية وما مضى كان معركة خسرناها فقم واعتذر لربك بما استطعت من العمل، ولا تنسى فنسيان الدماء في عرف الرجال حرام!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.