شعار قسم مدونات

إلى محمود درويش.. مُتْ لتعرفَ كم نُحبك!

blogs - محمود درويش
كلما عاد التاسع من أغسطس واستيقضت في الوجدان ذكرى الرحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش؛ أستعيد من خيالات الطفولة تلك اللحظات التي ظهر فيها الرئيس الفلسطيني محمود عباس عباس على شاشة قناة الجزيرة ليقدم كلمته التأبينية في وداع درويشحينها كنت في التاسعة من عمري ولم أكن قد تعرفت على محمود درويش بعد، ولم تكن هواجس الشعر والكتابة قد انتابتني آنذاك، إلا خربشات طفولية كأي طفل يحلم بكتابة جملة مفيدة. بعدها (أي بعد وفاة درويش) حملت السنوات لي قصيدته "سجل أنا عربي" وكنت أسمعها لأول مرة، تلك القصيدة التي شغف بها الجمهور العربي إلى أن ضاق درويش نفسه ذرعاً بها، وكان ذلك في مرحلة مبكرة من عمري، ثم تلتها قصيدة "أيها المارون" وقد استقبلها الجمهور العربي مغناة بصوت الفنانة السورية أصالة نصري. 

ومن هنا أستطيع القول إن حضور درويش المستمر في الأعمال الفنية من غناء ودراما وحتى سينما (باعتبار أن درويش قد ظهر في أحد الأعمال الشهيرة للمخرج السينمائي الفرنسي جان-لوك غودار وهو فيلم "موسيقانا" وقد ظهر درويش في الفيلم في دور مثله بنفسه، كما ظهر في نفس الفيلم المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد) ساعد بشكل لافت على اسم محمود درويش وشعره في حالة من الحضور الدائم والاستدعاء المتكرر في الذاكرة العربية وحتى الإنسانية إذا ما ترجمت تلك الأعمال للغات العالمية (وهذا ما أعتقد أنه قد حدث فعلا لبعض الأعمال)، حاله في هذا يتقارب مع حال الشاعر السوري الراحل نزار قباني.

اليوم، وقد بتنا نعيش تغريبات ومآس على اتساع رقعة هذا الوطن العربي، فماذا عسى أن تقول القصيدة في "زمن الكارثة"؟! حتى الخليج الذي كنَّا نراهن على استقراره بات على مقربة من الهشيم.

اليوم، وبعد أن قرأت محمود درويش جيدا، بدأت أدرك حجم ذلك الدوي الذي عاشه الوطن العربي وما زال صداه يتردد، وبدا لي أن القضية الفلسطينية برمتها ستعيش يتماً معنوياً بعد رحيل محمود درويش، الذي حمل على عاتقه تصدير القضية الفلسطينية إلى المجتمع الإنساني، مع أجيال من الأدباء والشعراء الشباب، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشاعر المرحوم توفيق زياد والأديب والروائي المرحوم غسان كنفاني والفنان المرحوم ناجي العلي دون أن ننسى الشاعر الراحل سميح القاسم رفيق الدرب والشعر والتجربة بالنسبة لمحمود درويش، والذي كان آخر هؤلاء رحيلاً وكان ذاك عام 2014. فسعى درويش إلى إخراج صوت الإنسان الفلسطيني القابع في الداخل أو المهجر في المخيمات اللبنانية وغيرها للعالم، مستنداً على قصيدته التي لم يرد لها يوماً أن تنتهي، في وقت كانت القضية الفلسطينية بحاجة إلى الولوج إلى ضمير الآخر العربي قبل أي ضمير آخر.

فمنذ نكبة 1948م تكاثر الآباء على هذه القضية، ولطالما لوَّحوا بالكوفية الفلسطينية. حتى الأنظمة المستبدة منها، حاولت كسب شرعيتها بانتصارها للفسطينيين ودعم الثوار والمجاهدين. في حين كان الإنسان الفلسطيني يعيش حالات من التبني العلني والعشوائي في صفحات الجرائد كل صباح لقضيته وحقه المعقود على العودة. صوّر درويش هذه المأساة في ملحمته مديح الظل العالي، والتي كان يكرر فيها:
يا ابن أمي..
يا ابن أكثر من أبٍ .. كم كنت وحدك

كتبها عام 1984م، في العام نفسه الذي كتب فيه قصيدة بيروت، وذلك بعد اجتياحها عام 1982م والتي "اتخذت صورة رثاء ملحمي ونشيد جنائزي لبيروت" كما قال د.مصطفى الغرافي في دراسة له حول السمات المركبة في مديح الظل العالي لمحمود درويش (نشرتها مجلة عالم الفكر، العدد3، المجلد 43).

رحل درويش عن عالمنا في "زمان أقل جنوناً من الآن " حيث كان المشهد العربي يعيش تغريبتين في أحسن الأحوال، واحدة في فلسطين وأخرى في العراق بعد سقوط بغداد في أبريل/نيسان عام 2003م. أما اليوم، وقد بتنا نعيش تغريبات ومآس على اتساع رقعة هذا الوطن العربي، فماذا عسى أن تقول القصيدة في "زمن الكارثة"؟! حتى الخليج الذي كنَّا نراهن على استقراره بات على مقربة من الهشيم (هذا إذا أردنا أن نتفاءل أكثر).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.