شعار قسم مدونات

باسل الأعرج يطاردني في إسطنبول!

blogs - باسل الأعرج
اتخذت قراري بالرحيل، وبدأت بحزم حقائبي إلى إسطنبول لبداية مشواري الجامعي هناك في مدينة الكون (كما يسميها صديقي).. تلك التي عُمّرت فيها الحضارات المختلفة، وأثمرت ثقافات متنوعة، فولد من رحمها مناخ عام يقبل الاختلاف، وعقل جمعي يؤمن بسلطة الشعب ويختار ممثليه ويحاسبهم متى شاء، فبالتالي خرجت حكومة هي أميل للتعددية والديمقراطية. ولأن البيئة هي إحدى أهم العوامل الرئيسية لنضج الموهبة واختماراها، ولخوفي على ذلك المبدع بداخلي، وعلى نفسي من التيه في صحراءٍ لن أخرج منها حيا، فالنفس ما اعتادت على العطش، لهذا قرّرت الذهاب إلى اسطنبول، ترويضا للنفس ورعايةً للموهبة.

بعد اتخاذ القرار، وفي كل مرة كنت أذهب فيها إلى بيت جدي، كانت جدّتي تطل عليَّ بسؤالها المليء انكسارا وحزنا وحبا: "بدك تترك أهلك وبلدك وتسافر؟! حتقدر عالغربة؟!"، كان الجواب يباغتني ويخرج لاهفاً: "الغربة ليست غربة الأوطان وإنما غربة النفس عنها "(أي عن النفس). وهذا ما كنت أردده حتّى وصلت إسطنبول، واكتشفت بأنها متجذرة وحية في كل مكان فيَّ، عظيمة لا تنفك تعطي الدم للقلب حتّى تنام فيه حلماً يبقيه طيّارا ما بين السماء والأرض.. اكتشفت بأنها (فلسطين) ليست مجرد وطن ترعرت تحت سمائه، وغنيت نشيده يوما وبكيت! لا، بل هي وطن كان بذرةً في النفس حتّى عشعش وصار بستانا من اليقين أحمله معي أينما ارتحلت، فخلال حياتي فيه كان ينبت فيَّ ويكبر رويدا رويدا حتّى أضحى مبادئا وقيما تحييني وتحميني! وارتبطت الذكريات بتفاصيل تفاصيله، وأصبح قبو الذكريات هذا برحيلي عن أرضه ساخنا لا ينضب، وغاضبا لا يرضى إلا عناقه وتقبيله، وذاك محرّمٌ الآن للأسباب التي ذكرتها في الأعلى..ولكن هل يكون ترويض النفس بإحراقها؟!

يا وطني، أحبك كاملا، بطبريا، وعكا، وحيفا، ويافا.. والقدس، ولا أعترف بذلك الوطن الذي خلقوه لنا عبثا لينسونا قضيتنا الأم، وسعينا الأهم.. فلتخسأ كل اتفاقيّة تحاول تحديد ما ورّثنا إيّاه الأجداد.

أبوديس، الواد، ومخيم قلنديا، ساجي درويش، وباسل الأعرج! كلها أفكار تحدّثني يوميا  ولا تنفك تخرج معي في كل حديثٍ مع الأصدقاء.. لكن الأخير (أي باسل) أصبح شبحاً يعيش بداخلي ويذكّرني بمأساتنا يوما بعد يوم. ذلك المقاوم الذي عاش مناهضا لفكرة قبول الظلم وتمييع المقاومة والثورة لتخرج عن هدفها وتضل ككلاب البراري بلا طريق، فسجنته السلطة الفلسطينية لتلاحقه قوات العدو الصهيوني فيما بعد وتدخل بيته في رام الله! فتغتاله ليستشهد وبين يديه بندقية الثورة، وكتاب! وليدفع فاتورة علمه للأرض تأكيدا على مقولته الشهيرة: "بدك تكون مثقف، لازم مثقف مشتبك.. غير هيك لا منك ولا من ثقافتك".

باسل علّمني بأن الوطن الذي يناديني الآن لا يجزّأ، وبأن اللحظة التي يعتاد فيها المقهور على قهره وظلمه، وألفة وجه جلاده، تقصم يقينه بحقّه، وتهزم إيمانه بنفسه، وتذيبه ذلاً ليحيل في كتب التاريخ منبوذا من كل جيل، وعلّمني كذلك أن أغني دائما لفلسطين وبصوتٍ عال… ودون خجل، وألا أختار إلّاها وطنا ومنفى فأحصي البلاد: فلسطينا فلسطينا! كما يقول بخيت.

يا وطني، أحبك كاملا، بطبريا، وعكا، وحيفا، ويافا.. والقدس، ولا أعترف بذلك الوطن الذي خلقوه لنا عبثا لينسونا قضيتنا الأم، وسعينا الأهم.. فلتخسأ كل اتفاقيّة تحاول تحديد ما ورّثنا إيّاه الأجداد والآباء المؤسسين لهذه الحضارة العظيمة، وكل معاهدةٍ تحاول طمس هويّةٍ تميّزنا فيها وبها عن الأمم، وكل اجتماعٍ يُحقِّر من قيم ثورتنا المجيدة.. فلتدم يا وطني حرّاً عظيما، ولتدم رايتك الخفّاقة على الأقصى والقيامة هدفنا الأسمى، وحلمنا الأجمل!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.