شعار قسم مدونات

العلمانية العربية الجديدة

blogs - Secularism
الدعوة إلى العلمانية هي الآن الحلقة الثانية وقبل الأخيرة من مسلسل الشرق الأوسط الجديد. على مر العقود الماضية التي شكلت الحلقة الأولى من هذا المسلسل، عاشت المنطقة العربية وبعض دول الاقليم المجاور مشاهد تمثيلية دأب المؤلفون والمخرجون من خلالها على خلق أعداء وهميين للمنطقة والعالم وكان من أبرز الأعداء هو شخصية الإرهاب الذي جاءنا مرة على شكل القاعدة ومرة أخرى على شكل داعش وشقيقاتها والآن تطورت الشخصية الإرهابية لتصبح دول داعمة للإرهاب أو ما يسمونه بالإسلام السياسي.

 

المشاهد الأخيرة من الحلقة الأولى تحاول تهيئة الأجواء وضبط المزاج العام للمشاهدين لتهيئتهم ذهنيا وعاطفيا للحلقة الثانية. تتضمن هذه المشاهد محاولة تصوير الوضع الراهن على أنه مشابه بل متطابق نصا وروحا وسردا مع المشاهد الدينية والسياسية والاجتماعية التي سبقت الدعوة إلى العلمانية المسيحية في القرنين السابع والثامن عشر أو حتى ما قبل ذلك في القرن الثالث عشر. وهذا بالتأكيد مغالطة تاريخية. المطالبة بلا دينية الدولة (وهو المعنى الحقيقي لما يسمى الآن تلفيقا بالعلمانية) جاءت نتيجة فشل الكنيسة في استيعاب وتقبل حقائق واكتشافات وثورات علمية جديدة بل مقاومتها ومحاربتها حتى أصبحت الكنيسة مصدر التخلف والرجعية والخرافات وبالتالي كان لابد من تحييدها وعزلها.

 

مسيرة التحول لن تكون جولة في حديقة غناء أو بالبساطة التي يعتقدها البعض خاصة أن هناك إمارات داخل الدولة قد تقاوم التغيير الذي لا ينسجم مع أخلاقها الاجتماعية والدينية والسياسية أو تطلعاتها.

وتزامن هذا الخلاف أيضا مع بروز مجموعة من المفكرين والفلاسفة الغربيين الكبار أمثال ديكارت وفولتير وغيرهم الذين انكبوا على صياغة مبادئ العلمانية وتحديد مفاهيمها على أساس "دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر" واستطاعوا اختراق الرواسخ المسيحية السائدة التي كانت الكنيسة تدافع عنها وتحارب من أجلها واستبدلوها بمفاهيم حرية الأديان وحرية الرأي والفكر والعدل والمساواة.

فهل الدعوة إلى العلمانية العربية هي اتهام للإسلام بأنه دين متخلف ورجعي؟ هل يرفض الإسلام حرية الدين وهو من أوجد مبدأ اللاإكراه في الدين؟ وهل يرفض الإسلام حرية الرأي وهو ما أقر بأن أمرهم شورى بينهم؟ وهل يحارب الإسلام العلم وهو فريضة على كل مسلم؟ أم أن الإسلام ضد العدل والمساواة ورب هذا الدين هو من يؤمرنا بالعدل والإحسان؟ هذه أسئلة يسهل الإجابة عليها ولكن هناك سؤالين يحيران كل باحث في هذا الموضوع. الأول: هل فعلا ستوسع الدول العربية التي تسعى إلى العلمنة من هوامش حرية الدين والمعتقد والفكر والعدل والمساواة وتداول السلطة؟ والثاني: هل لدينا مفكرين وفلاسفة أكفاء يستطيعون إعادة تشكيل العقل الإسلامي وإقناعه بالتحول العلماني ونحن كل من لدينا هم أعيا من باقل وأحمق من هبنقة؟ 

اقتصار الدعوة على دول مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر والأردن له ما يبرره من وجهة نظر الليبراليين العرب. لا شك بأن الإمارات وبصفتها عراب هذه الدعوة، صادقة وجادة في دعوتها ورغبتها إلى التحول العلماني وهي دولة لديها معظم ما يؤهلها لأن تتبنى العلمانية. وهي رغبة إن كانت جادة فما علينا إلا احترامها وقبولها إذا كانت نابعة من إرادة الشعب، سواء اتفقنا أم اختلفنا مع هذه الرغبة شريطة أن تحترم الإمارات رغبات الدول الأخرى بأنظمة الحوكمة التي تختارها لنفسها.

لكن على أغلب الظن أن مسيرة التحول لن تكون جولة في حديقة غناء أو بالبساطة التي يعتقدها البعض خاصة أن هناك إمارات داخل الدولة قد تقاوم التغيير الذي لا ينسجم مع أخلاقها الاجتماعية والدينية والسياسية أو تطلعاتها. ولكن في مقابل ذلك فان الإمارتين الفاعلتين في الدولة الإماراتية، أبو ظبي ودبي، لا شك بأن لديها استراتيجيات وخريطة طريق وحلفاء في المنطقة ومستشارين في الداخل سيساعدوهما على الانتقال السلس للعلمانية وبشكل رسمي. لكن من المبكر معرفة ما هي العلمانية التي تريد دولة الإمارات تبنيها. هل هي العلمانية المعتدلة التي تفصل الدين عن الدولة ولكن بنفس الوقت يحتفظ الدين فيها بمنزلة خاصة رمزيا، ام هي العلمانية المادية التي تلغي الدين كليا؟ 

السعودية، وبسبب مكانتها الدينية لدى كل مسلمين العالم، فإن تحولها من دولة ذات طابع ثيوقراطي إلى العلمانية سيكون بمثابة الفتوى لباقي الدول الاسلامية الكبرى لاتباع نفس النهج. الأخطر من ذلك إن دفع المملكة العربية السعودية للدخول في النادي العلماني سيعني نهاية الدولة السعودية أو على الأقل تقسيمها. فلن يكون مقبولا ولا سائغا أن الدولة التي تحتضن مهد الإسلام وقبلة المسلمين تكون دولة علمانية. فبالتالي سيكون الحل هو تقسيم السعودية إلى دويلات منها دولة مكة والمدينة التي ستحتفظ بطابعها الديني وتقف على الحياد من أي خلاف ديني أو عرقي أو طائفي في المنطقة، اي بمعنى أخر تصبح جزء مستقل عن الدولة السعودية على شاكلة العلاقة السياسية والجغرافية التي تحكم الفاتيكان بإيطاليا أو تصبح دولة حيادية كسويسرا أو السويد.

لحسن الحظ أن دولة مثل قطر قد تنبهت للمشروع العلماني مبكرا واسشرفت مستقبل المنطقة وتخطو خطوات ثابتة نحو استقلالية توجهاتها بما يتناسب وينسجم مع طموحاتها المحلية والإقليمية وبما لا يضر بمصالح الآخرين

وما تبقى من الدولة السعودية الحالية سيدخل النادي العلماني وسيبرر على أنها محاولة لوأد الصراع الطائفي بين شرق المملكة وبقيتها أو التصالح مع ومهادنة المد الشيعي الإيراني. التحدي الأكبر بالنسبة للسعودية، أن صدقت التكهنات برغبتها في التحول إلى دولة علمانية، سيكون محاولة إعادة تأهيل وترويض قاعدة إسلامية عريضة متشددة ومتغلغلة في المجتمع السعودي وهو ما قد يصبح البعوضة التي تدمي مقلة الأسد!

قد تواجه مصر مقاومة ضعيفة مما تبقى من جمهور الأزهريين الأصلاء ولكن بيئة الجهل والفقر والقمع وشراء الذمم والإعلام النفعي والمرتزق ستسهل على الدولة المصرية تمرير التوجه الجديد. ولا استبعد أن تصدر الدعوى للعلمانية من الأزهر بعينه علما أن مصر والنظام الحالي فيها علماني مادي قمعي بامتياز. اما بالنسبة للأردن فالدعوة إلى علمانية الدولة ستقدم بأساليب الدبلوماسية الناعمة والسياسة الهادئة مع كم هائل من المغريات والمحفزات ولكن بخطوات حذرة جدا. مكونات المأزق الأردني تشكل حالة فريدة من نوعها في المنطقة لعدة اسباب من أهمها التركيبة الديموغرافية للسكان والطبيعة القبلية المحافظة والتيارات الإسلامية المعتدلة التي تعمل بهامش من الحرية ومجاورة الكيان الصهيوني والأصول العريقة للعائلة الحاكمة وما هو متوقع منها. لذلك اتوقع أن تنجح الدبلوماسية الأردنية في اقناع تيارات التأثير الخارجي بالابتعاد عن الساحة الأردنية لبعض الوقت.

خبرة إسرائيل في المنطقة العربية والإسلامية ومعرفتها بحركة الشارع العربي وعدد نبضاته في الدقيقة جعلها تتدارك الجلبة السياسية واللغط الثقافي والديني والسياسي الذي احدثته ردة الفعل العربي والإسلامي على الدعوة الى تبني العلمانية كنظام للحكم في المنطقة العربية. فقامت إسرائيل وسريعا بإبتداع مصطلح "الدول السنية المعتدلة" ليكون بديلا عن مصطلح العلمانية ولكنه سيخدم نفس الأهداف ويؤدي نفس الدور. وبعد تمرير مشروع علمنة المنطقة العربية، سنبدأ بمشاهدة الحلقة الثالثة والأخيرة من مسلسل الشرق الأوسط الجديد. فالدول التي ترفض عضوية نادي الامتياز العلماني، ستتهم بعدم احترام حرية الفكر والرأي والدين وسيخرج العدو الجديد من وكره وهو حقوق الإنسان وندخل في المتاهة من جديد. لحسن الحظ أن دولة مثل قطر قد تنبهت للمشروع العلماني مبكرا واسشرفت مستقبل المنطقة وتخطو خطوات ثابتة نحو استقلالية توجهاتها بما يتناسب وينسجم مع طموحاتها المحلية والإقليمية وبما لا يضر بمصالح الآخرين. المطلوب عربيا ودوليا احترام هذا التوجه، ليس بالضرورة التعامل معه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.