شعار قسم مدونات

مجانينُ كنّا ولم نزَل

مدونات - سوريا
"الصّاحي يبدو مضحكًا بين السّكارى؛ لأنه في صحبة السّكارى، وهؤلاء يكونون الأكثرية، وهم يحدّدون ما هو طبيعيّ؛ فالرّجل الصّاحي يتصرّف بشكلٍ غير طبيعي في هذه الصّحبة" علي عزّت بيغوفيتش

في سنةٍ خلت في زمن الاستبداد الأسديّ المرّ في عهدِ حافظ الأسد تفاجأ المارّونَ قربَ أحدِ أصنامه المزروعةِ على امتدادِ أرضنا الثكلى برجلٍ يحملِ مهدّة ويهجمُ على الصّنمِ الواقفِ رافعًا يده ملوّحًا للعابرين، فَغَرَ الجميعُ أفواههم وهم ينظرونَ إلى هذا "المجنون" واكتفوا بالفُرجة الحذرة وهم يعلمونَ مصيرَه المحتومَ حتّى وصل زبانية المخابرات فأوسعوه ضربًا قبلَ أن يلقوه غارقًا بدمه في سيّارتهم، وتفرّق الجمع يترحّمُون على هذا "المجنون" الذي ضيّعَ نفسَه من بين جموعهم العاقلة.

كانَ المجتمعُ يَصِمُ أيّ أحدٍ يرفعُ صوته بكلمةِ رفضٍ أو يسطرُ حرفًا متحدّيًا بالجنون، وكان العقلُ يقتضي أن يمشي الجميع "الحيط الحيط ويقولوا: يا ربّ الستر" وأن يبتلعوا كلماتهم خوفًا من هذا الحيط نفسه لأنّ له آذان، حتّى قررت ثلّةٌ من المجانينُ هدمَ هذا الحيط والمشي فوقَه، وإسماعَ الدّنيا كلّها صوتَ الرّفض الذي ما عاد يقبلُ أن يبقى حبيسَ زنازين الصّدر.

هؤلاءِ
هؤلاءِ "المجانينُ" هم من تحوّلت الحجارة في أيديهم إلى صواريخَ بعد أن ترعرعوا على الجنون، بعيدًا عن العقلِ العاجزِ.

حينَ حملَ تلاميذ غزّة الحجارةَ في مواجهةِ الدبابات الصّهيونيّة وُصفوا بالجنون في عصرِ العقلِ السياسيّ الخانع، وقد خاطبَ نزارُ قباني أولئكَ المجانين حينها مطالبًا إيّاهم أن لا يحيدوا عن جنونهم ولا يلتفتوا إلى عقولنا:

يا تلاميذ غزّة لا تبالوا بإذاعاتنا ولا تسمعونا
نحن أهل الحساب والجمع والطرح فخوضوا حروبكم واتركونا
يا تلاميذ غزّة لا تعودوا لكتاباتنا ولا تقرؤونا
نحن آباؤكم فلا تشبهونا نحن أصنامكم فلا تعبدونا
حرّرونا من عقدة الخوف فينا واطردوا من رؤوسنا الأفيونا
يا مجانين غزّة ألف أهلًا بالمجانين إن هم حرّرونا
إنّ عصر العقل السياسي ولى من زمان فعلّمونا الجنونا

هؤلاءِ "المجانينُ" هم من تحوّلت الحجارة في أيديهم إلى صواريخَ بعد أن ترعرعوا على الجنون، بعيدًا عن العقلِ العاجزِ الذي قال فيه المتنبّي:
يرى الجبناءُ انَّ العجزَ عقلٌ ** وتلكَ خديعةُ الطّبعِ اللئيمِ

مجانينُ كنَّا حينَ ثرنا على أشرسِ أنظمة الاستبدادِ والقمعِ والمنطقة، ومجانينُ كنّا حينَ لم نعبأ بالمعادلاتِ الدوليّة والإقليميّة الحامية لهذا النّظام المتغطرس، ومجانينُ كنّا حينَ لم نُقم وزنًا لحلفائه من دولٍ ومرتزقة، ولكنّ هذا الجنونَ هو الذي بعثَنا من الأجداثِ التي كنّا نظنّ أننا أحياءُ فيها، وإنّ عظْمةَ الأمنِ الموهومِ التي طالما ألقى بها النّظامُ إلى الشّعبِ الذي لا يراهُ أكثرَ من كلبٍ وفيٍّ ليضمنَ بصبصته بذيلِه رضًا وحفاوةً بهذه المكرمة؛ قد كسرناها وألقينا بها في مزبلةِ التّاريخِ مع كلّ مكرماتِه التي خُدعَ بها "العقلاءُ السّكارى".

تكالبت الدّنيا علينا، وكنّا ولم نزل المخذولين المتروكين وحدَنا في مواجهةِ وحوشِ الكونِ كلّه بلا سلاحٍ غير جنوننا الذي لم ينطفئ. وبعد سنواتٍ سبعٍ ملأنا سنابلها من دمنَا ليكونَ هوَ الزّادُ حينَ يغاثُ النّاس وحينَ يعصرون؛ ها هم يحاولونَ الالتفافَ على جنوننِا بواقعيّتهم السّياسيّةِ التي ترى أنّ العقلَ يفرضُ اعتذارًا ضمنيًّا من المقتول لقاتله عن طريقِ الموافقةِ على بقائه مقرفصًا على رقابِ المظلومين.

يحاولونَ جاهدينَ إقناعنا أنّ الاستمرارَ في هذه الثّورةِ مع تحالفِ العالم ضدّها ما هو إلّا ضربٌ من جنونٍ لا ثمرةَ فيه، وأنَّ علينا أن نصالح قاتلنا، والصّلحُ هنا هو المكياجُ السياسيّ الجميل لكلمة الاستسلام.

نحنُ المجانين الذينَ نسخرُ من الموتِ النّازلِ براميلَ وصواريخَ وغاراتٍ مثلَ يومِ القيامةِ لن نتعاملَ بسخريةٍ أقلّ مع العقلاء من الدّولِ والأفرادِ حينَ يطلبونَ منَّا أن نجثوَ أمام قاتلنا.
نحنُ المجانين الذينَ نسخرُ من الموتِ النّازلِ براميلَ وصواريخَ وغاراتٍ مثلَ يومِ القيامةِ لن نتعاملَ بسخريةٍ أقلّ مع العقلاء من الدّولِ والأفرادِ حينَ يطلبونَ منَّا أن نجثوَ أمام قاتلنا.

فإلى العقلاء من أبناءِ جلدتنا ومن حلفائنا المفترضين ومن كلّ النّاصحينَ خذوا عنّا قرارَنا:
نحنُ المجانين لا نعرفُ قواعدَ اللعبة السياسيّة ولكنَّنا نعرفُ جيّدًا طعمَ الحريّة حينَ تمتزجُ بالدّم، فإنّ طعمها من كوثرِ الجنّةِ التي حطّ فيها شهداؤنا رحالَهم فرحينَ ويستبشرونَ بالذينَ لم يلحقوا بهم من خلفهم من المؤمنين الثائرين المجانين الذين ما بدّلوا تبديلا.

ونحنُ المجانين لم نصافح الأيدي النّاعمة اللّينة في بهو الفنادق الفارهةِ ولم نتبادل الضّحكاتِ مع المسؤولين الدّوليين والأمميّين، ولكنَّنا تبادلنا البكاءَ مع أمّهات الشّهداءِ وتشابكت على خدودنا دموعنا ودموع بناتهم وقبضنا على أكفّ آبائهم الخشنة وهم يقولون لنا قبلَ أن ندفنَهم: دم أبنائنا برقابكم.

ونحنُ المجانين لا نعرف ما هو البوفيه المفتوح الذي تقرّرون على هامشه مصيرنا، ولكنَّنا نعرفُ جيّدًا أنَّ اللّقمة المغمسةَ بالكرامةِ ثمنها غالٍ وغالٍ جدًّا.

ونحنُ المجانين الذينَ نسخرُ من الموتِ النّازلِ براميلَ وصواريخَ وغاراتٍ مثلَ يومِ القيامةِ لن نتعاملَ بسخريةٍ أقلّ مع العقلاء من الدّولِ والأفرادِ حينَ يطلبونَ منَّا أن نجثوَ أمام قاتلنا.

ونحنُ المجانين الذين لا نريدُ أن نغيّركم ولا أن ننفخَ فيكم شيئًا من روحِ جنوننَا القدسيّ، ولكنّنا لن نقبلَ منكم ولا من أحدٍ من الكونِ أن يغيّرنا أو يسرقَ منَّا جنوننا الذي هو رأس مالنا.

فيا أيها العقلاءُ المعتاشونَ على دمنَا، والمتصدّرونَ بفضلِ جنوننا الذين هدمَ الصّنم وأنتم تحوقلون من بعيدٍ؛ احملوا عقولكم وانصرفوا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.