شعار قسم مدونات

في جعبتي حنين

blogs الأمل

حَنَّ للشيء: أي اشتاق وتاقت نفسه إليه، وحَنين: أي كآبة تُحدِثها الحسرة على ما فات. وأيضاً الحَنين هو الشوق أي نُزوع النفس إلى شيء أو تَعَلُّقها به. هكذا أقرَّ المُعجَم. ماذا قالت الحياة الدنيا عن الحنين إذا؟
 

حنين إلى كل ما مضى، إلى كل ما تركناه غير راغبين في اقتنائه، إلى كل ما مر علينا منذ المولد حتى حين. اشتياق للأماكن والبنايات، وإلى رفاق زمن الصبا. بل الروائح القديمة للأشياء وروح المكان التي تعوَّدناها عند المرور من هنا. أصوات الباعة أو حتى المشاجرات بينهم وبين المشترين. حتى أذكر أن لحظات الرحيل لم تكن بتلك السهولة، قراراً واحداً قضى ثم غادرناها إلى غير عودة.

وإن الجديد ولو كان حلواً فهو قد بُني على أنقاض ماضٍ ليس بالضرورة جميلاً ولكنه كان جزءاً منا، امتزج بنا وامتلأت أرواحنا منه وتشكلت كل تلك الصور الذهنية في عقولنا. تأتيني أحياناً حُلماً.. أسعد به غالباً، يهبني فرحة لحظية وإشباعاً للحنين.
 

تنقضي سنين العمر وما زلت أنت كما أنت لم تتبدل ولم تتحول، وما طرأ عليك هي تطورات لا تمس باطنك فمازالت فطرتك كامنة بداخلك، ما خُلقت عليه

كيف لك أن تتغاضى عن خيوطٍ نسجت منوال سنوات عمرك؟ وكيف تصبح رماداً تحمله الريح بعيداً عنك؟ كيف لك أن تقطع من روحك أجزاءها، وكيف ستعيش بخلوّ في أعماقك يعرّض كيانك للتحطم بأقل ريخترات تضرب الأرض من تحتك؟ بل كيف ستحيى بدون مراراتك وآلامك التي باتت إحدى الأعمدة التي يستند عليها قلبك، وكيف للذي حطمك أن يكون عمادك الذي بدونه تتلاشي وتفنى؟
 

تنظر إلى مرآتك فترى أن ما تعكسه ليست محض صورة لك.. وإنما خلاصة سنين قضيتها بالأفكار والمشاعر والأوقات والأشخاص والمواقف والقرارات والنزاعات والهدنات.. باتت حقيقتك لا تحتاج لتفسير أو فهم، لأنها تخطت كل ذلك. لأن ما بقي لك منك يحتاج لأعوام من التحليلات والبحث والافتراضات حتى تُفهم.. إنك أصبحت الآن بداخلك معجزة إلهية تشهد عليها نفسك، وكل تساؤلاتك لم تكن لها جواب لأنها فوق حدودك البشرية.
 

تنقضي سنين العمر وما زلت أنت كما أنت لم تتبدل ولم تتحول، وما طرأ عليك هي تطورات لا تمس باطنك فمازالت فطرتك كامنة بداخلك، ما خُلقت عليه.. تغيب عنك تلك الحقيقة ما دامت ترتحل مع الزمن إلى الأمام، وتعود نفسك أحياناً إلى ما فات لتتذكر ثم تتعجب ثم تبتسم وأخيراً تستمر بالمُضي قدماً.
 

لا شيء يتوقف وخاصة الوقت، لكن تجد سلواك في هذا الحنين الذي يخلق لك كبسولة زمنية وقودها صورك القديمة حين كنت تتضاحك في عيد ميلاد مع رفاقك الماضيين، وأغنية ارتبطت بشعور جديد عليك، وهدية تلقيتها بعد نجاح أو ربما رسالة مكتوبة من أفراد لا تعلم أين هم في الحياة الآن.. كل ما يمثل قطعاً من تاريخك.. يتوقف الوقت لحظات وتعود إلى أجمل الأيام التي استعجلتها لتتولى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.