شعار قسم مدونات

وَلَا الَّليْلُ سَابِقُ النَّهَار..

مدونات الليل

في مشهدٍ أَفضَلَ بِملايينِ المَراتِ مِنْ المَشاهِدِ السِينمَائِيَّةِ العلمِيَّة كُنت ُ قَد اسْتَلقيْتُ تَحتَ قُبَّةِ السَّمَاءِ السَّوداءِ المُرَصَعَة ِ بالنُّجُوم.. وكَعِشقي لِفِعلِ ذلك أعشَقُ خَوْضَ الرَّحلاتِ الفكريَّةِ التأمليَّةِ في مثلِ هذهِ الجَلَسات.. هَذِهِ المَّرَة أَبحَرَت بي أفكاري بعيداً حيثُ الليلُ والنَّهار.. حيثُ ضياءُ الشمسِ ونورُ القمر.. حيثُ يَستَحِيلُ للقمرِ إِدراكُ الشَّمسِ ضياءً ومكَاناً مَهمَا أنَارَ لَيْلَ الأرض!

وكالعادة ستحضر أركاني إحدى آياتِ القرآن ترافقني التأمل حتى أتمكن بها وتتمكن مِنِّي.. قال تعالى: "لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" يس(40). يتداخل لمعانُ النُّجومِ المُتَتَابِعِ مع صورٍ كثيرة ٍأمامي.. صورٍ من عهدٍ مضى.. كلحظة فتح صلاح الدين للقدس وفتح مكةَ.. صعود سيدنا بلال ليصدح بالأذان لأولِ مرة ودموعه تملأ عينيه.. مشهدُ وفاةِ رسول اللهِ -صلَّ الله عليه وسلم-.. ثم سيد قطب وهو ينسج حروفه التي تبهرني دائماً بعمقها ووعيها.. تضحياتُ الإمام الشهيد حسنِ البنا وأثره الباقي فينا حتى اليوم..

نظرةٌ واحدة في تاريخ المسلمين تؤكِّد أن ما يلحق بالأمة إنما هو في الحقيقة عقوبات مستحقَّة.. وأن كلَّ أمة تستسلم للنوم؛ فإن الله يبعث عليها سوطاً يوقظها، سواء كان هذا "السوط" عدوّاً من الخارج، أو اضطراباً في الداخل.

أطفال غزة المحروقون بالفسفورِ الأبيض.. أطفال سوريا المختنقون بغاز السارين وغاز الكلور السَّام.. وتلك النظرة الملتصقة بمسلمي العصر "الإرهاب"، ذلك الاستضعاف للمسلمين، ومسلمي بورما الذين يُحاربون في دينهم ويُحرقون ويُقتلون.. تتابع كل مآسي عصرنا تُعرض علي في شريط ٍ طويل كما شريطُ الأخبار الذي أقرأ فيه إلا أخبار القتل والسجن والتعذيب والاحتلال والظلم والتخاذل.. أتنهد وأقول.. يا الله كم ليلنا حالكُ السواد بل وأصبح ليلنا مقيماً كما يُقيم الليل لستةِ أشهر في القطبين على نحو متواصلٍ دون بُزوغٍ واحدٍ للشمس! ما الجُرمُ الذي اقترفتهُ عُروبتُنا لنكونَ أراذِلَ القوم بَعدَ أن كنَّا أسيادًا أعزاء؟!

رُغمَ حبِّي لسماءِ الليلِ ونجومها وعشقي لهدوئه وصمته المهيب إلا أنه دون وجود شعورك بالأمان سيصبح الليل مخيفاً منزوعَ الطمأنينة خصوصاً في وجود الكثير من الأعداء لك ولدعوتك.. من جانبٍ آخر الليلُ غطاءُ المؤمنين.. كم منهم يتخذ الليل ستاراً يواري به إعداداً عظيماً للنصر.. كم منهم يسهر مرابطاً على الثغور؟ وكم منهم ينتظر الليل ليرفع يديه داعياً الله القادر.. كم من مهامٍ عظيمة أصبحت نقاط تحولٍ في التاريخ كان الليلُ غِطاءً لها.. الليلُ ميدان الإعداد والتجهيز.. ميدان الاستجماع ومدرسة الصبر والانتصار على النفس، بالضبط كما تربى الصحابةُ في مدرسةِ قيام ِ الليل .

أتساءلُ دائماً وكثيراً لم قد يبطئ النصر رغم الظلم المهول الواقع على المؤمنين.. رغم كل الضحايا الأبرياء.. دائماً كان القرآن يجيبني على تساؤلاتي.. حين تقرر إفراد ختمةٍ كاملة من القرآن تحت شعار التأمل في سنن الأقوام السابقة وعوامل النصر والهزيمة صدقني ستجد العجب العجاب وستتوسع مداركك كما يتوسع الكون باستمرار.. ثم توِّج ذلك بكتابٍ عن هذا .

مثلا ً تعلمت من صاحب "الظلال" بعض الأمور التي يتأخَّر النصر بسببها:
أن النصر قد يبطئ؛ لأن بنية الأمة لم تنضج بعدُ نضجها، ولم تستكمل قوتها واستعدادها.
وقد يبطئ حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً إلا وتبذله رخيصاً في سبيل الله.

وقد يبطئ حتى تجرِّب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها -بدون سند من الله- لا تكفل النصر.
وقد يبطئ لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضةً من البيئة، لا يستقر معها قرار.

undefined

وقد يبطئ لتُزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، فتعلم يقيناً أنه لا ملجأ ولا منجا منه -سبحانه- إلا إليه.
وقد يبطئ لأن الأمة المؤمنة لم تتجرَّد بعدُ في كفاحها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققِّه، أو حميَّة لذاتها، أو شجاعة، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله .
وقد يبطئ لأنَّ في الشرِّ الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرِّد الشرَّ منها؛ ليتمحض خالصاً.

وقد يبطئ لأنَّ الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون؛ فقدد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشَّف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية.

حين يُشرق نهارنا سيظهر أثرُ العمل والإعداد الجادِّ الفعَّال الذي سيُترجم نصراً للحق وأهله.. فقط لنؤمن بأنفسنا أكثر ولنعمل عليها.. ولنسبح نحو سفينتنا بدل أن ننتظرها طويلاً.

ونظرةٌ واحدة في تاريخ المسلمين تؤكِّد أن ما لحق بالأمة -ولا يزال يلحق بها- إنما هو في الحقيقة عقوبات مستحقَّة.. وأن كلَّ أمة تستسلم للنوم؛ فإن الله يبعث عليها سوطاً يوقظها، سواء كان هذا "السوط" عدوّاً من الخارج، أو اضطراباً في الداخل.

"فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية.. كما أنه لا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي، ما لم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني في الانتصار على النفس، والغَلَبَة على الهوى، والفوز على الشهوة، وتقرير الحق الذي أراده الله في حياة الناس؛ ليكون كلُّ نصر نصراً لله ولمنهج الله، وليكون كل جهد في سبيل الله ومنهج الله؛ وإلا فهي جاهلية تنتصر على جاهلية".

فالجماعة المسلمة التي تريد أن تنتصر على عدوِّها لابد وأن تتزوَّد بمادة الإعداد، وهذه المادة لا تقتصر على آلة الحرب؛ بل يتحتم عليها التعبئة الكاملة.

بعد كل هذا أدركتُ أن الليل وإن طال فإن النهار سيسطرُ من جديد.. فحتى النهار في القطبين يشرق بعد غياب طويل ويدوم ستة أشهر كما الليل.. وحين يُشرق نهارنا سيظهر أثرُ العمل والإعداد الجادِّ الفعَّال الذي سيُترجم نصراً للحق وأهله.. فقط لنؤمن بأنفسنا أكثر ولنعمل عليها بالمقامِ الأول.. ولنسبح نحو سفينتنا بدل أن ننتظرها طويلاً.. فالعبرةُ بالنهايات المشرقة.. فشروق ُ الشمسِ لا ينتظرُ النائمين..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.