شعار قسم مدونات

زراعة فكرة في اللاوعـي البشري

blogs - inception
كثيرون هم الذين شاهدوا -إن صحَّ التعبير- المُعجزة السينمائية “Inception” ورأوا كيف يُمكن في الأخير لفكرة صغيرة، مرنة، شديدة العدوى، تنغمس بين ثنايا اللاوعي، أن تنجح في إقناع “فيشر” عن وعي تام بالعزول عن مملكة والده! وتساءل كثيرون وقتها، كيف يمكن لفكرة ترقد في اللاوعي أن يظهر تأثيرها على الوعي وتبنى عليها قرارات مصيرية كالتخلِّي عن إرث، ومملكة مترامية الأطراف كمملكة والد “فيشر”، وذلك دون التذكر أنَّه قد سبق وأن تعرَّض للخضوع لمثل تلك الأفكار في لاوعيه. قبل أن نُجيب بكيفية حدوث ذلك، دعنا أولاً نتساءل.
هل زَرعْ فكرة ما داخل أغوار العقل البشري فن دخيل علينا؟
إن سألتَ أي إنسان رشيد في كامل قواه العقلية، وقلت له، هل سبق وأن استطاع أحدهم إقحام فكرة ما داخل رأسك من دون علمك؟ بالطبع سيخُبرك بكل معاني النفي القاطعة مُستحيل. على الرُغم من أنَّ حصيلة أفكار كثيرة تشكَّلت لديه قد تمت بمُعاونة أبويه في زراعتها عن لاوعي وذلك حينما كان صغيراً. قد تُقاطعني وتخبرني، هذا حينما كان صغيراً، أما الآن فهو إنسان رشيد يزنُ عقله ذهباً.

زراعة فكرة تعني تصديقا لفكرةٍ مستوحاة عن لاوعي من العقل الباطن، والعمل بما جاء فيها عن وعي، دون معرفة أن مصدرها هو اللاوعي؛ لأنه إن حدثَ ومرَّت بالوعي الإدراكي أولاً دون اللاوعي المُغيَّب سيتم استنكارها ورفضها.

حسناً، لكن ماذا عن الساحر! هو أيضاً يزرع بداخله فكرة ما، حيث يوهمه أن يده اليمنى يكمن فيها السر كله، بينما في الأخير هي يده اليسرى من تُحرِّك تلك الخُدعة. ستقول لي وفمك يكشف عن بسمةَ احتيالٍ، ولكن تظل في الأخير خُدعة ويعلم أنَّه قد يتعرض للخداع فيها! حسناً، هُنا قاربتَ الصواب؛ لأن من يُخدَع ويُزرَع في دواخلهِ فكرة ما، هو في الأصل لا يكون على دراية كافة أنَّه يتم خِداعه أو يتعرَّض لإقحام فكرة ما في عقله… لمَ لا تقرأ الآتي بدقَّةٍ وبحرصٍ شديدين؟!

"يُمكن للاوعي الإدراكي المُصاحب للعقل البشري أن يتعامل من بني البشر دون أن يمر عبر بوابة الوعي الإدراكي".. بيتُ القصيد الذي افتتحه “سيجموند فرويد” -مؤسس علم النفس التحليلي- في المقولة السابقة يُعطي تفسيراً مبدأياً كيف لشخص مثل "فيشر" أن يعدِلَ عن مملكة والده، فيُخبرنا بإمكانية حدوث غزوٍ للأفكار الكامنة في العقل الباطن (اللاوعي) نحو تلك التي ترقُد في العقل الظاهر (الوعي)، لدرجة قد تدفع تلك الأفكار الباطنة المُختزنة في اللاوعي البشري إلى أن تتحكَّم في زمام العقل بأسرهِ ومنها إلى سائر الجَسد في أوقات ولحظات مُعينة. والأدهى في ذلك أن ما سَلف ذكره يحدث دون حسّ إدراكي من العقل الظاهري أنَّه تحت صَولَة العقل الباطني وسطوته!

العلاقة بين اللاوعي وبين زراعة فكرة دخيلة على عقلٍ بشري:
في الأصل، زراعة فكرة هُنا تعني تصديقا لفكرةٍ مستوحاة عن لاوعي من العقل الباطن، والعمل بما جاء فيها عن وعي، دون معرفة أن مصدرها هو اللاوعي؛ لأنه إن حدثَ ومرَّت بالوعي الإدراكي أولاً دون اللاوعي المُغيَّب سيتم استنكارها ورفضها بشدة، وما سبق ذكره يحدث مروراً بآليات، حيثيات، وتدابير مُعيَّنة. أما العقل الباطن حيث اللاوعي، فهو المستودع الذي تختزن فيه معلومات، أحداث، أفكار، كلها تتشارك جميعاً فيما بينها على استقرارها في أعماق البُعد الباطني للعقل، وذلك دون انتهاج أيَّة أساليب قد تتآلف في تحديد طبيعة وتوجُّه تلك الأفكار. فإن تم محاولة زرع فكرة ما، وحدثَ وأن تمَّ ترجمة تلك الفكرة حتَّى صارت كُلِّياً كياناً أصيلاً من العقل الظاهر حيث الوعي المُطلق، فهذا يعني فشل محتوم. لذا كان لِزاماً أن يكون أساسياً ومن البديهيات لزراعة فكرة في عقل شخص ما أن يُدرك أين يكون مُستقرها في الأخير.

فيلم  
فيلم  "Inception" الذي جسد كيف يُمكن لفكرة صغيرة، مرنة، شديدة العدوى، تنغمس بين ثنايا اللاوعي، أن تنجح في إقناع “فيشر” عن وعي تام بالعزول عن مملكة والده! وتساءل كثيرون وقتها، كيف يمكن لفكرة ترقد في اللاوعي أن يظهر تأثيرها على الوعي.

آلية حياة الفكرة داخل ثغرات العقل وطياته:
يُذكر أن أخ رقم (1) قتل زميله في الجَامعة بطريقة مروِّعةً وقد شَهِدَ أخاه (2) أن أخاه رقم (1) شاهد قبلاً تلك الطريقة في فيلم سينمائي بالتلفاز، ولكن أخاه رقم (1) أنكر ذلك لأنه لا يتذكر! أهي صُدفة؟
بالطبع لا، فحينما تدخل فكرة مدسوسة في عقلٍ عن لاوعي من الباب الخلفي له، هُنا ما تتسارع لأن تلبث في طَودْ الأغوار السحيقة للاوعي المُغيَّب إلى أن تبقى فيه ما تبقى، والمُدة هُنا التي تستغرقها الفكرة الدسَّاسة كي تبقى في اللاوعي دون انتفاضةٍ، فإنها تتوقف على طبيعة الفكرة نفسها ومدى مرونتها، ولكن المؤكد أن خروجها من عنق اللاوعي لتُصبح وعياً هو أمر مؤكد فقط حينما تواتيها الفرصة. وما إن تأزف الساعة بالخروج فإنها تصير كياناً متصلاً بالوعي حيث العقل الظاهري من دون إدراك أنه تمَّ استخلاصها من اللاوعي حيث العقل الباطني!

كلمَّا ازداد الشخص حَبكَةً نحو زرع فكرته في أسلوبه القصصي غير المُتَّسم بالسذاجة في الطرح، وغير المُتلزم بوقت أو ظَرفٍ، كلما ازدادت فرصة تقبُّل تلك الفكرة عن لاوعي. وهذا الأسلوب كما يطلق عليه البعض أسلوب دسُّ السُم في العسل.

كبت الأفكار والتأثير الارتدادي:
من أوائل الأساليب المُنتهجة في ولوج فكرة ما داخل العقل الباطني -من بوابة العقل الظاهري- هو الشروع في مُحاولة مصتنعة لكبتِ فكرةٍ معيَّنة. فمثلاً، إن كُنتَ -أنت- على عربة قطارٍ ما وكان عن يمينك شخص يقرأ كتاباً ما، وقمتُ -أنا- بالاقتراب منك، وهمستُ في أذنيك بألاَّ تُفكِّر حتى أن تنظر للكتاب الذي يقرأه من يجلسُ عن يمينك (كَبت لفكرةٍ ما) واخبرتك سبباً وراء ذلك (زرع الفكرة).
السؤال هو، ما هو الشيء الذي سيشغل بالك بقية يومك، بل ربَّما قد يستحوذ على تفكيرك حتى نهاية عطلة الأسبوع؟ بالطبع الإجابة ستتمحور حول ذلك الكتاب (تأثير ارتدادي).

ومن المؤكد ورود أسئلة على ذهنك من نوع مثل، لمَ أخبرتكَ لا تنظر إليه ولا تفكِّر حتى فيه. وهُنا يُلاحظ على الرغم من حدوث تلقينٍ مُباشر -بألا تنظر للكتاب- والذي تم افتكاك شفراته في العقل الظاهر، إلا وإنني أراهنك أنَّ ذلك السبب (زرع الفكرة) الذي أخبرتك إياه سيتداخل عن لاوعي منك مع تقديرك لمواقف أخرى في المستقبل تماماً حسبما أردتُّ وأنت لا تدري. بالرغم من أن الأسلوب -الظاهر- المستخدم هُنا كان أسلوب الوعظ والتلقين، إلا أن الأسلوب الخفي هنا كان أسلوب التشتيت الذهني.

إسقاط فكرة على عباءة أخرى مُستخدماً الأسلوب القَصصي:
عن وعي أو بدونه، كثيرون منَّا يستخدمون هذا الأسلوب، فحينما يجدون إشكالية تتعلق بأحدٍ منهم فهُم يُسارعون في تسليط الضوء وإسقاط أفكارهم على هيئة شخص مجهول كي يزرعوا أفكارهم. فمثلاً إن أرادت الأم زراعة فكرة بداخل ابنها كي لا يتأخر ليلاً أو لا يُصادق أصدقاء السوء، هُنا ستُخبره قصصاً قد تكون مُختلقةً عمن كانوا مثله وكانت نهايتهم مأساويـة! ليتسرب من ثمرة الكلام أفكار تزحف رويداً رويداً نحو العقل الباطن. وكلمَّا ازداد الشخص حَبكَةً نحو زرع فكرته في أسلوبه القصصي غير المُتَّسم بالسذاجة في الطرح، وغير المُتلزم بوقت أو بظَرفٍ محدد، كلما ازدادت فرصة تقبُّل تلك الفكرة عن لاوعي. وهذا الأسلوب كما يطلق عليه البعض أسلوب دسُّ السُم في العسل، ذلك إن اتفقنا على لفظ "السُّم" وإن كان هُنا يتوجب أن يكون في غير محله.

* في المقال القادم سيتم طرح بعض الإشكاليات الجديدة، منها:
– لمَ لا ينجح زرع فكرةٍ ما في أوقات عديدة ؟
– أمثلة جديدة على حالات زُرعت فيها أفكاراً داخل العقول.
– هل قد يستخدم في غير محله؟ وما وجه الإستفادة منه أصلاً؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.