شعار قسم مدونات

ربيعنا السجين على أعتاب دمشق

blogs سوريا حمص

غافلتنا رحى الربيع العربي عندما دارت فسرقتنا وطحنتنا في رحاها ونحن راضون، مسرورون، ومتحمسون، ربيعٌ عربي صادف ربيع عمرنا فدسنا ربيعنا الثاني كرما لربيعنا الأول، كيف لا وهو المُخلّص المنتظر لأوطاننا من بؤسنا العربي، من جحيم زعماء امتهنوا بالوراثة طيلة عقود إذلال وسلب كرامة شعوبهم لأجل بقائهم حراساً لهيكل أسيادهم رُعاة حقوق الإنسان ودُعاة إحيائها وهم قتلتها الحقيقون.

ربيعٌ عربيٌ أحيانا وأماتنا في آن معاً، أحيا بصيرتنا وأرشدها لطريق خُلقنا للسير فيه حتى وصولنا نهايته أو نهايتنا، وأمات فينا مع كل دم نازف وروح صاعدة قلوباً أعيتها مأساة ست سنين ونيّف، أنضجتنا -هذه السنون الست- كما تُنضج النار حبات القهوة، إلا أن نضوجنا كان سريعاً بعكس حبات القهوة، نضجنا وذُقنا مرارة نضوجنا، مرارة تطيب لنا مع كل رشفة نرتشفت فيها حكايا أعمارنا، حكاياتٌ هي وقصص ولحظات متباينة المشاعر، لا مجرد شهور وأيام وساعات.

ست ونيّف غادرنا فيها حياتنا بخصوصيتها وكينونتها واستقرارها إلى حياة المجهول، جهلنا فيها مصائرنا، إلا أن الغاية كانت لنا معلومة، ستٌ ونيّف ابتعدنا فيها عن الأهل والأحبة، فارقنا فيها فلذات الأكباد، رفاق الدرب، الذين شاركونا أحلامنا، أمالنا، أوجعانا، وحتى معيشتنا أحياناً على مدى سنوات وشهور، وكأن بهجة النصر المأمول لا تعظم قيمتها إلا بعد تعاظم الأسى واشتداد الألم.

ربيعٌ عربيٌ أحيانا وأماتنا في آن معاً، أحيا بصيرتنا وأرشدها لطريق خُلقنا للسير فيه حتى وصولنا نهايته أو نهايتنا، وأمات فينا مع كل دم نازف وروح صاعدة قلوباً أعيتها مأساة ست سنين ونيّف

آمال عريضة وأحلام كبيرة ومستقبل رسمناه في أذهاننا عن وطن يملؤه الحُب، تسوده الحرية، ويتفيؤ ظلالَ عدله أبناؤه جميعاً من مختلف الأعراق والأديان، ثرنا لأجل هذا الحُلم فصرخنا، وغنينا، ورقصنا، فرحنا وبكينا، تعلقنا بحبال آمال النصر تارة، وخابت ظنونا تارات، قاتلنا لأجله وقُوتلنا بسببه من أعداء الثورة الظاهرين والمُتقنّعين بقناعها.

الوطن، المجتمع المدني، القانون، الديمُقراطية، وحُرية الفكر، مُجرّد الإيمان بها كان كُفراً وخروجاً عن "الملّة"، وكانت كفيلةً لترشقنا سهام "الإخوة" المسمومة بحجة "الحفاظ على الشريعة وتطبيقها"، والحقيقة أنهم ما حافظوا إلا على الموروث البعثي المُستبد، وما طبّقوا إلا شريعة الغاب، فأغرقوا ثورتنا وأغروقنا معها.. ولا زال الكثير يُجهل مكمن الخلل! ابحثوا في الفكر الوصائي، الإقصائي، الذي فرّخ لنا وما يزال -على مدى عقود- رؤوساً تُجيد الكلام حول الدين ولا تُجيد تطبيقه.. 

اُغتيل الربيع العربي في معظم الأوطان التي انفجر فيها، بسكاكين الثورات المضادة، ولازالت هذه السكاكين تطعن في قلبه السوري الذي يضعف يوماً بعد آخر مقاوماً حتى زفرته الأخيرة، أو تعافيه مجدداً بمعجزة -قادرون على صُنعها إن أردنا- أشبه ببعث الربيع العربي نفسه، وهنا على أعتاب دمشق وثراها حيث طال البعد مع قصر المسافة بيننا وبينها، تتعلق الأنظار بالمدينة المتوهجة المتلألئة في مساءٍ صيفي لطيف، وتأسى على حالها وحالنا الشبيه بها فكلانا سجينان، محاصران، أتعبنا الحنين إلى الحرية والنصر المنشودين، ويقتلنا مع كل مرة نفكر فيه، بعدٌ أبدي عنها قد يحين يوما..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.