شعار قسم مدونات

العرب والحداثة.. إعادة قراءة التاريخ العربي

blogs - عبد الإله بالقزيز
لا أعجب من الأسلوب الراقي الذي طرحه المفكر والكاتب الدكتور عبد الإله بالقزيز في كتاب العرب والحداثة دراسة في مقالات الحداثيين، والصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 2007، حيث إنه أعاد قراءة التاريخ العربي بالشكل الذي يعيد الاعتبار لفكرة الحداثة في الوعي العربي المعاصر، وهذا من خلال اعتماده على المنهج النقدي في البحث والذي يقتضي بتناول المفاهيم والأفكار ويخضعها للسؤال والقياس، ذلك بهدف إثبات الوقائع وتفسيرها.
جاء الكتاب في مقدمة وثمانية فصول مقسمة إلى ثلاثة أقسام، في قسمه الأول تحدث عن القاعدة الأساسية التي يستند إليها في فهم جدلية الأنا والآخر وجدلية الحداثة والأصالة، والذي بدأت في القرن التاسع عشر للتعبير عن المشروع الفكري للنهضويين العرب، والذي تحدث عن تغيير الفكر الثقافي والاجتماعي من خلال الدفاع عن العقل والحرية والتفكير العلمي، بالإضافة إلى العدل والدستور في مواجهة الانحطاط، ثم انتقل إلى جدلية الحداثة من النهضة إلى النكسة باعتبار أنها بدأت بفكره وانتهت بأيديولوجيا محصورة في جمهور القومية والليبرالية واليسارية، ثم انتقل في فصله الثالث من القسم الأول للحديث عن جدلية الآنا والآخر في الوعي العربي المعاصر من خلال إعادة تعريف الآنا والوعي بالآخر، والتي تنمي الشعور بالتفوق الحضاري أو الثقافي أو الأخلاقي، بينما الوعي العربي في مقاربته لمسألة الآنا والآخر يقوم على تناقض تكويني أدى إلى انقسام معرفي على شكل فجوه ثقافية وحضارية.

وصف الكاتب العقلانية النقدية العربية المعاصرة بالتركيبية بدليل أنها استوعبت العقلين الحداثي والإسلامي الذي تأثر بابن رشد والغزالي وابن خلدون وابن تيمية وابن القيم وسيد قطب وغيرهم من أصحاب العقلانية الإصلاحية.

أما القسم الثاني فقد شمل ثلاث مفاهيم أساسية وهي التكوين، والتراكم، والحصيلة، في بداية القسم الثاني جاء الفصل الرابع يتحدث عن تاريخ كتابة وتكوين فكرة الحداثة في الوعي العربي والتي ارتبطت بالفكر الإصلاحي الإسلامي في فواتح القرن العشرين من خلال إعادة بناء خطاب إسلامي منفتح على معطيات العصر ومتطلع إلى تأهيل المجتمعات الإسلامية وبناء إنساني جديد مستفيد من الحداثة الغربية دون أن ينفك عن السياق الإسلامي، ثم انتقل في فصله الخامس إلى الحصيلة الفكرية التي تحولت من العقلية العربية إلى العقلانيات العربية من خلال عقلانية الإصلاح الإسلامي وعقلانية الليبرالية "الحداثة" بالإضافة إلى العقلانية النقدية، وهذا التمايز في العقلانيات شملت جميع الفوارق في بين التيارات والأفكار المختلفة في الوعي العربي باعتبار أن هذه العقلانيات متمايزة ومختلفة لا تقبل الإدراج تحت إطار نظري ومرجعي واحد، نظرا لاختلاف مراجعها.

فالإصلاحية الإسلامية وإن فتحت على الغرب تبقى مشدودة إلى العقلانية الإسلامية وكذلك العقلانية الليبرالية تبقى مشدودة إلى الديكارتية التجريبية، والأمر ذاته عند العقلانية النقدية بقيت ناقدة للعقلانيتين الإسلامية والليبرالية حتى وصلت إلى أعتاب ما بعد الحداثة، وانتقل بالقزيز في الجزء الأخير من هذا الفصل ليصل إلى حصيلة الحداثة من خلال النهضة بالترقي والتمدن، إلا أن الحداثة في الوعي العربي تعرضت إلى انتكاسات محورية تمثلت في الاستعمار الأجنبي للبلاد العربية وانقلاب العقلانية العربية على نفسها، مما أدى إلى انهيار المشروع العربي الإصلاحي.

وانتهى الفصل الخامس من القسم الثاني بالحديث عن مخرج للانتكاسة التي تعرض لها المشروع العربي، حيث قدم دعوة إلى تبني فكرة العلمانية على المثال الغربي، بالإضافة إلى تخليهم عن أوهام الدولة العثمانية مقابل إيجاد حاضنة عربية تستوعب المفاهيم والأنشطة والآراء الفكرية المختلفة، وبالتالي وصف الكاتب العقلانية النقدية العربية المعاصرة بالتركيبية بدليل أنها استوعبت العقلين الحداثي والإسلامي الذي تأثر بابن رشد والغزالي وابن خلدون وابن تيمية وابن القيم وسيد قطب وغيرهم من أصحاب العقلانية الإصلاحية، وهذا ما تمسك به الكاتب في تقديم مساهمة رائدة في الانفتاح على الثقافات الكونية والدفاع عن التقدم وعن الدولة الوطنية الحديثة، وفي مقارعة الاستبداد والدعوة إلى الحرية والعدالة الدستورية والسياسية والارتقاء بالعقل الإنساني من خلال التربية، وهذا يشكل مدخلا للقسم الثالث من الكتاب.

ثم انتقل الكاتب في القسم الثالث والذي جاء الفصل السادس في مقدمة هذا القسم حيث تناول مجموعة من المفاهيم الليبرالية السياسية من وجهة نظر لطفي السيد أحمد، حيث تناول مشكلة الحرية في الفكر العربي الحديث، فحسم السيد أحمد ولاءاته المرجعية في مشكلة الحرية من موقع ليبرالي صريح وهو الأشد انفتاحا من غيره على الفكر الأوروبي الحديث، ودافع السيد أحمد عن الحرية وقسمها إلى حرية مدنية، طبيعية، سياسية، واعتبر أن الحرية والطبيعة الإنسانية متلازمتان من منطلق أن الإنسان حر بطبعه، وربط الحرية السياسية بالحرية المدنية على أساس مبدأ المواطنة، ثم انتقل في الحديث عن الحرية الجماعية والفردية وطرق الوصول إلى الحرية ومذاهبها، وتناول دور الدستور والسلطة تجاه الحرية وعبر عن التوافق الواضح بين مصلحة الفرد ومصلحة المجموعة، وهنا تكمن مصلحة الأمة ومصلحة الحكومة.

قدم طه حسين مساهمة أخرى مطابقة لمساهمة السيد أحمد في علاقة الدولة بالتعليم والديمقراطية باعتبار أن أي نظام ديمقراطي في أي مجتمع لا يولد إلا من رحم المعرفة والوعي الصحيح.

وفي الفصل السابع؛ تناول بالقزيز مجموعة من أفكار علي عبد الرازق والتي تتعلق بالمقدمات الإسلامية في الحداثة السياسية وآلية تأصيل نظام مدني، انطلق عبد الرازق من فكرة العلمانية العربية الحديثة المنفتحة على التيارات الفكرية الغربية حيث قدم مساهمة جيدة في قياس الصلة بين البعد السياسي والديني في الإسلام، وبالتالي قدم دعوة إلى إقامة الفصل بين السياسة والدين، وتأسيس السياسة على قواعد العقل والمصلحة والمواضعة، هذا يقود إلى طريقين، إما اعتبار العلمانية مذهبا أو علمنة الدولة بشكل كامل وكلاهما يقود إلى حداثة سياسية.

وينتقل المؤلف في الفصل الثامن والأخير إلى مساهمة طه حسين والذي تناول المثال الأوروبي في التعليم والديمقراطية، وواضح في طرحه أنه دافع عن الجديد في وجه القديم ودافع عن الحداثة في وجه التقليد، ولم يكتف طه حسين بالدفاع عن المنهج الغربي بل تعدى ذلك ليصل إلى نقد المشرق وطرح مثال يتعلق بمصر باعتبارها متأثرة بالتاريخ الإسلامي الذي يملك الصفة الاستمرارية، هذا يعني أن الإسلام أحدث انقطاعا في سيرورة التطور في مصر، وهذا يشطب التاريخ الإسلامي في مصر، في المقابل دافع طه حسين عن المثال الأوروبي باعتبار أن السبيل الأوروبي هو السبيل الوحيد للحداثة، في المقابل واجه طه حسين حركة ممانعة مما أدى إلى تراجع الحركة الثقافية في خطاب طه حسين، وفي جزء أخير تحدث د. علي أومليل عن الأسس التربوية للحداثة والتي تحدث عنها محمد عبده أيضا، والذي كان يهدف إلى إصلاح الأزهر وإقامة مدارس وطنية حديثة من أجل بناء مشروع تعليم عصري بالإضافة إلى التشبيك مع المدارس الأوروبية.

وقدم طه حسين مساهمة أخرى مطابقة لمساهمة السيد أحمد في علاقة الدولة بالتعليم والديمقراطية باعتبار أن أي نظام ديمقراطي في أي مجتمع لا يولد إلا من رحم المعرفة والوعي الصحيح، وفي آخر مساهمته تحدث أن التعليم شديد الاتصال بالديمقراطية، وبالتالي واضح أن فكر طه حسين هو فكر تنويري تحمله نخب مستنيرة تقدمه لجمهور يشرب هذه الحداثة من خلال التعليم.

هذه مساهمة علمية قيمة تحتوي على مجموعة من الأفكار التي تشكل قاعدة أساسية نستطيع الانطلاق منها إلى الحداثة، بداية من الفكرة والأيديولوجيا وإعادة قراءة وكتابة التاريخ بالشكل الذي يشكل نهضة في الوعي العربي المعاصر، مرورا بالحصيلة الفكرية لمساهمات المفكرين العرب في تكوين وتراكم وحصيلة الحداثة التي أعادوا طرحها على الساحة العربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.