شعار قسم مدونات

التاريخ في قلب نبي!

blogs الأقصى
أحد الأعزاء ثابتي الود في القلب كان يخاطبني في كثير من المرات بـ"يا بنت القدس".. في زنزانة العزل الانفرادي الأخيرة في مركز تحقيق المسكوبية في القدس، تركت على حافة الباب اسمي مرفقا بهذا النداء المحبب لقلبي، كثيف الذكرى والمعنى أثراً وأُنساً لمن قد يأتي بعدي، الآن أدرك كم تبدو مؤلمة ومتعبة وفي غاية الدهشة والجمال والتعقيد علاقة الأمومة-البنوة حين ترتبط بالقدس، الآن أجد نفسي تتضاءل أكثر كلما تزاحمت الأحداث  وتكاثفت على طريق القدس خطوات الباذلين، تعبهم، حبات عرقهم، أنفاسهم المتسارعة للوصول، ودموعهم الحارقة في صلوات قلوبهم، كرُّهم وفرُّهم، انتظامهم الفطري بعد كل موجة قمع للصلاة، الجراح وتطبيبها، الأمهات وحنوهن، الصغار وعزمهم، وصرخة "الله أكبر" تعلو كلما بغى الجند وجاروا.. فيزداد في الجمع إيمانه، وسكينته، وثباته.
 
متكثفون، كلنا، بكل ما حمل أنبياؤنا إلى الله منا قبل أن يغادرونا! ألمنا وحزننا، معاركنا، حيواتنا الضاجة بتفاصيل كل ما قد يحياه بشري، وأكثر! صراعنا بين فطرة الحرية السماوية، وانحناءة العبودية الأرضية.

أشد التضاؤل يصيب الروح، وهي تنساق في خشوع إلى محراب العارجين إلى سماء الله، المتقدمين، المرتقين، الذاهبون إلى الله على عَجَلٍ، تاركين لنا كثافةً لا يصح السؤال عنها أو وصفها "كم".. تفاصيلهم معانٍ لا منتهية، لا ابتداء أو انتهاء، كل تفصيلة في ميزان الإنسان بطهر ما أودعه الله فيهم هي حالة فوق الوصف، ويحنا كيف نفكر حيناً أن نحصر في أذهاننا وإحساسنا ماذا أو كم يتركون من حكايا حين يعرجون بنبوية خالصة إلى السماء؟ وتضعني القدس أمام سؤالها الأزلي الكبير، الوجودي الخالد! "لماذا القدس؟" ما الذي يجعل هذه المدينة مركز كل صراع بين بني البشر؟ وهي البقعة الوحيدة على الأرض التي تهب الروح سلاماً سماوياً يطهرها من كل ثقل أو ضيق! لا أدعي أني سأقدم إجابة شافية مكتملة، ولا أعتقد أن عمراً كاملاً يمكن أن يفعل، وحدها لحظة الوصل فالاتصال بالسماء تملك أن تفعل.. وهي إذ تفعل تعجز اللغة والقول كله، وتبقى التماعة العين ونبضة القلب وعروج الروح.. تحكي كل ما لا يُحكى!
الوجود في القدس، الإنسان هناك حالة سماوية كثيفة ساكنة مطمئنة، متخففة من ظلم الطين وثقله، أتعابه المتلاحقة، وتبعاته من صراعات وظلمات!

تميم، في بديعته الشعرية يقول "في القدس يرتاح التناقض" تحمل المدينة على الدوام هذا المعنى! حين تضمني ضمة المُحب، تكثف في وعيي صورة النبي محمد في الليلة التي وهبت لهذه المدينة سمتها السماوية، وامتدادها اللامكاني، امتدادها المقدس فيما هو أعمق من زمن واحد، أو مكان، أو أمة! النبي محمد، والأنبياء الذين اصطفاهم الله ليكونوا بقلوبهم من يشق لنا الطريق نحو وطننا، السماء.. المتعبون بكبر الطين فينا، والمتسعون لضعفنا وخوفنا ، والمؤمنون تمام الإيمان، بنفوس مطمئنة يأتوننا رجلا في إثر رجل، لا يضرهم أذيتنا لأجسادهم فهي طين، ولا تخدش طهر أرواحهم شقوة المكابرين.. النبي محمد، إماماً للأنبياء، ليقينهم وتعبهم وإيمانهم، لاتساعهم الذي كان دائما يغير وجه التاريخ، وينقل الناس من حياة ضيقة إلى رحبة برحابة وطنهم الأم.. يصلون! ويصعد النبي محمد للسماء آتياً بـ"أرحنا بها يا بلال"، "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، يكثف النبي محمد بصلاته تاريخ البشرية كله في تلك الليلة، في القدس، ويفهمنا أننا نحن البشر، كلنا مهما اختلفنا، متكثفون فيها ليلتها تلك، بسجود كل الرجال الذين على امتداد التاريخ كانوا رسالة الله التي تعيدنا إلى الوجهة الصحيحة، إلى السماء!

يفنى من حولها كل البشر سوى من عرف كيف يكثف قلبه في حضرتها، لا كما فعل الأنبياء، لأن تلك معجزة، لكنه عرف الدرب فاقتفاه، صاعدا إلى سماء الله، مصلياً، أو مرابطاً، متصدقاً بماءٍ.
يفنى من حولها كل البشر سوى من عرف كيف يكثف قلبه في حضرتها، لا كما فعل الأنبياء، لأن تلك معجزة، لكنه عرف الدرب فاقتفاه، صاعدا إلى سماء الله، مصلياً، أو مرابطاً، متصدقاً بماءٍ.
 

متكثفون، كلنا، بكل ما حمل أنبياؤنا إلى الله منا قبل أن يغادرونا! ألمنا وحزننا، فرحنا، ضحكنا، معاركنا، حيواتنا الضاجة بتفاصيل كل ما قد يحياه بشري، وأكثر! صراعنا بين فطرة الحرية السماوية، وانحناءة العبودية الأرضية.. قلب النبي لا يحمل منا ما يحمل كما نتخيل، يحمله كثيفاً شفيفاً.. ليلتها تلك هبط كل الأنبياء، بكل ما حملوا، فكانت بوابة السماء، بوابة تَنَزُّل كل التاريخ في قلب نبي! ربما لذا نتصارع عليها، لأنها كانت أرض التقاء كل نقائضنا البشرية بتناغم ما!

يفنى من حولها كل البشر سوى من عرف كيف يكثف قلبه في حضرتها، لا كما فعل الأنبياء، لأن تلك معجزة، لكنه عرف الدرب فاقتفاه، صاعدا إلى سماء الله، مصلياً، أو مرابطاً، متصدقاً بماءٍ، أو تالياً للآي، أو في أعظم اقتفاء باذلاً مرتقياً.. لا يزال وعيي متوقفاً عند السابعة والنصف صباح الجمعة، أحملق بصمت ووجل ورجفة القلب إذ ذاك لا تحكى في صورة محمد من الجبارين الثلاثة، وقد ارتقى، يداه مفتوحتان كأنما يحتضن السماء، ووجهه مولىً قِبَلَها، والمكان في اتساع لا تشرحه الفيزياء!

أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب؟ تفعل! لأنه وصل الأرض بالنور الذي لا شحة فيه ولا وهن، نحن نصارع الدنيا لنحافظ على النور الذي مدته لنا السماء في ظلمة ليل..

الشهداء يقاربون ربما في تكثف قلوبهم، ما حمله الأنبياء، فلا تتسع لهم الأرض، يرونها بفطرتهم تضيق في حضرة كثافة قلوبهم النبوية، فيرتقون! ربما هكذا! درويش، في جنون شعري يقول:
"في القدس ..
أسير من زمن إلى زمن
بلا ذكرى تصوبني
فإن الأنبياء هناك يقتسمون
تاريخ المقدس
يصعدون إلى السماء"..

إتياننا إليها، ظفرنا، انتهاء الحرب، بابه واحدٌ، نلجه بما ورثنا من الأنبياء أحراراً، مكتملي الحرية كما تجلى الأنبياء في ليلة القدس تلك، كانت قلوبهم كثيفة بمعنى إنساني عميق، مقدس، دونه كل شيء يبدو رخيصاً بلا قيمة، كان المعنى هو "الحرية" وكان مبناه "قلب نبي".. وهناك، تلك الليلة كان اتصال الأرض بالسماء يتجلى للخلود بهذا التمازج المتناغم بين سماوية الإنسان الخالدة بروحه، وأرضيته المؤقتة بوجوده، ربما نتصارع لأن هذا التناغم صعب التحقق في أي مكان يتجلى بكل سلاسة في القدس، حالتنا الوجودية الهادئة التي -فيما اختبر قلبي- تكاد تكون حالتنا في الجنة! نريدها، شيء فطري من التشبث بالأصل الذي نعرف في أنفسنا الظمأ إليه دونما ارتواء، حتى إذا ما أتينا القدس ارتوينا فجأة! تماما كفجأة صعود الروح إلى السماء.. ثم لا نتخلّى، ونخوض كل حروبنا لئلا يسلبنا أحد هذا الري!

"أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب؟" تفعل! لأنه وصل الأرض بالنور الذي لا شحة فيه ولا وهن،
نحن نصارع الدنيا لنحافظ على النور الذي مدته لنا السماء في ظلمة ليل.. ظلمة تزداد حلكة الآن.. نصلي على الأبواب وفي الشوارع والأزقة لئلا نفقد النور! "وفي القدس السماء تفرقت في الناس تحمينا ونحميها" تحمينا بفطرة الأم تحمي الذي منها، من أصلها، بنيها.. ونحميها لئلا نهلك! لئلا يتحول تضاؤلنا أمام أزلية المدينة وما ارتبط بها إلى وجود عابث تماماً أو تلاشٍ مهشم، لا يرقى لما قد ندعي أنه حب لها، إلا أن تدور بنا الأيام فتسائلنا القدس.

سلامٌ بكِ علينا يا أرض القلوب الشفيفة الكثيفة المتخففة من طينها، المرتقية لا يحدها ضعف ولا خوف، سلمنا بكِ، أما أنتِ فالله أبداً يملؤك منه سلاماً، إذ ذاك وعده.. سلامٌ بكِ علينا، نعاند كل الدنيا لنظفر به لئلا نهلك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.