شعار قسم مدونات

أسرى القدس

blogs - المسجد الأقصى
أنا لم آتي هنا لإخبارك أنّ القدس عربيّة أو أن إسرائيل دولة محتلّة، هذا الكلام لا أستطيع قوله لك لكي أُبرّر عروبَتها أو أحاول بقدر الإمكان أن أخبرك بعقيدتي، فهذا الكلام الذي ملّت النفس منه، بل جزعت منه وإن لم يكن جزعًا عظيمًا. حينما تتحدّث عن القدس ينتابُك شعورٌ فطريّ غريب! وكأنك تتحدّث عن روحٍ غائبة لكنّها ما زالت تَحتضنك أو نفسًا ملحدة لكنّها تؤمن باللّه! ما أقصد هو شعورٌ مختل غريب يدخل في أحشاء جسدكَ ليخبركَ أنك ما زلتَ عاجزًا رغم يقينكَ بها.
في صغري، أصابتني الفجأة حينما عَلمت أنّه لا يوجد كيان يطلق عليه إسرائيل أو أنهم هم مجموعة أتوا إلى بلادنا العربية ليخبروا العالم بعجزنا التام. أيضًا ارتبط معي شعور فطري بأنه من علامات قيام السّاعة المؤكدة هو تحرر القدس العربية، لم أعي تمامًا هل هذا اختلال في ذاكرتي أم أنه عيب من منظماتنا التعليمة، أم أنها حالة من الغزو الفكري والتاريخي على عقولنا. لكني ما زلت على يقين بأن القدس ستعود أو ربما سيأتي من جديد صلاح الدين ليخبر كل من نصفتهم الظروف؛ أن القدس ما زالت عربية، وأنهم مجرد احتلال مؤقت، سينتهي بانتهاء الفتنة التي انتشرت في أحشاء مملكتنا العربية.
 

ما زلتُ على يقين تامّ رغم تتابع النكبات بها، ورغم كثرة الشهداء في ساحتها، ورغم تفرط القوى العربية في أركانها، ورغم فقد القدس روح أصحابها وانتهاك عرض أبنائها، أنه ما زال روح صلاح الدين بها تخبرها كل يوم أنه على صلة بروحها.

الغريب الذي لم يعلمه المحتل الإسرائيلي أو تجاهله بكامل إرادته؛ أن القدس تعرف أهلها جيدًا وكأنها علاقة فطرية وغريزة عاطفية بين ابن تداعته الظروف ليرحل عن أحضان أمه خوفًا من ظلم الوطن وقهره، لكنّ أمه ما زالت على يقين بعودته، فالقدس تحفظ أشكال أهلها جيدًا، تشمّ رائحتهم تحيِ ما تبقّى من أجسادهم، تخبرهم في كل وقت إنها ما زالت على عهدها الأول بهم، تعلمهم بأنّ الاحتلال زائل وتعطيهم دروسا في الإنسانية الحقيقية، وتؤكد على رسالتها لهم كل صباح بأن الشمس ما زالت تشرق من الشرق، وأن محمد بن عبد الله آُسريَ من هنا، وأنها هي أول القبلتين، وأنها ما زالت مكرمة محروسة بأهلها.

أنا لم أقصد تمامًا حينما قلت أَسَرَى القدس إنهم كأَسَرَى الحرب، وتداعتهم الظروف لكي يقبلوا بالذل والهوان، لا يا عزيزي على الإطلاق! لكني هنا أقصد الأسرُ النفسي، هو كونك لا تستطيع أن تحتضن مكانًا تحبّه بصدق فأعظم أنواع العذاب يا عزيزي هو العجز خاصة في كونك تشاهد ما تحب كل يوم ولا تستطيع أن تصل إليه، وكأنك تركض كل يوم إلى ما لا نهاية، حتى أصبحت منهكا كعادتك. الكل بلا استثناء مر بالقدس، أحبها، وسكن فيها بالقوة أو بالتراضي، فلا تقف تمامًا على صهيوني أرد بكل قوته وسلاحه الذي يخبئ عجزه خلفه.

لربما قد هرم الجسد وشاخت النفس بما كفى، لكن الأمر عجيب، وكأنها علاقة طردية بين الحب واليقين بها، أو ربما قد اعتادت الروح على وجودها، لكن العجيب في الأمر أن التاريخ قد عجز أمام عيونهم الوقحة، أو عجز أن يخبرك بشدة تؤلمه لفقدانك، وكأنه فقد كل قوى السيطرة على ما تبقى من القدس، حتى إنه أعمى عيونهم عن حقيقة كونها عربية؛ عجز أن يخبرهم أن الأنبياء مروا من هنا، أو أن كل شيء زائل وأن الصبر من صفات الأنبياء. وربما لم يع الصهيوني جيدًا، أن الأماكن تحفظ أصحابها ويسكنون في روحها، كما تسكن في روحهم علاقة الوصل بما هو مفقود، قانون أقوى بكثير من قوى الجاذبية.

لكني ما زلتُ على يقين تامّ رغم تتابع النكبات بها، ورغم كثرة الشهداء في ساحتها، ورغم تفرط القوى العربية في أركانها، ورغم فقد القدس روح أصحابها وانتهاك عرض أبنائها، أنه ما زال روح صلاح الدين بها تخبرها كل يوم أنه على صلة بروحها، وأنه سيأتي يوم وتعود لأهلها، وأن ما زال في مخيلتي أن الطفلة التي نمت بداخلي أن الجندي العربي لما يفقد هيبته، وأنه يحمل السلاح على كتفيه لحماية أركان ما تبقّى من دولتنا، لا لقتل أبنائها وسفك دمائهم في ترابها لحماية ما فقدنه من هيبتنا لحماية ما تبقى من لمام أشتَاتنا. لكن عليك أن تعي عزيزي العربي أنه في القدس من في القدس لكن لا ترى كعادتها فيهَا إلاّ أنت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.