شعار قسم مدونات

نظام المستقبل.. عولمة وليبرالية واستثمارات خارج الكوكب

blogs - أميركا شوارع
في كل محطة تاريخية مفصلية من مسيرة البشرية، تتحدد معالم نظام عالمي جديد يختلف مع اختلاف الزمن. وفي مرحلة مبكرة من هذا التاريخ، كان هناك جزء لا يستهان به من الجماعات البشرية غير مكتشفة ومنها ما تم معرفتها بعد اكتشاف أميركا. لذلك كان هناك نظام عالمي سائد قبل تلك الحقبة التاريخية محدد بشروط ولادة معينة تشمل التقدم التكنولوجي ومساحات السيطرة (المستعمرات) والزخم الثقافي والعلمي (كان مرتبطا بمعظمه بالفلسفة والدين).
وبعد حقبة اكتشاف القارة الأميركية، كان هناك نظام جديد يولد للعالم ويتجه نحو تفرد كيانات سياسية كبيرة بالسيطرة وهي الإمبراطوريات ومستعمراتها حول العالم. ساهمت لاحقا الثورة الفرنسية والثورة الصناعية ونتائج حرب الاستقلال الأميركي في خلق مفاهيم جديدة تدور حول فكرة الحرية وبناء الدولة الوطنية. ظلت الأمور تأخذ مسارا تقليديا حتى الشرارة الكبرى في الحربين العالميتين الأولى والثانية.

جاءت تلك الحروب بعد التقدم التكنولوجي الذي حصل في أوروبا وأميركا وبظل غياب طرف ثالث حيادي يكون حكما وهو ما ستلعبه لاحقا الأمم المتحدة بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. كانت هذه الحروب بهمجيتها وقسوتها ووحشيتها ساحة تضحية وسفك دماء على مذبح ولادة حقبة تاريخية جديدة للبشرية، وخاتمة لنظام عالمي تحكمه الإمبراطوريات بشكلها التقليدي (فرنسا وبريطانيا والسلطنة العثمانية) لصالح الدول الوطنية القوية ذات السياسات التوسعية.

لو توحدت مثلا جهود ناسا ووكالات الفضاء الأوروبية والروسية والصينية بطريقة أكثر فعالية مما هو الحال اليوم فسيتم إنجاز العديد من الاكتشافات بوتيرة أعلى ما سيضمن مستقبلا آمنا للبشرية في ظل الغموض السائد حول وجود مخلوقات فضائية وكواكب صالحة للحياة.

يرى البعض في هذا النظام الجديد خداعا للتاريخ وضحكا على الحقيقة، فالذي تغير بنظر هذا البعض هو التسميات فقط لا الأفعال، فاستبدل الاحتلال بالانتداب، واستبدلت الإمبراطوريات بالدول العظمى. ومع مرور الوقت، سينحصر الصراع بين نظامين ورؤيتين، إحداهما معسكر الشرق متمثلا في الشيوعية عبر الاتحاد الشيوعي والآخر معسكر الغرب عبر أميركا ومتمثلا بالرأسمالية. كان واضحا في هذا الصراع آثار التاريخ والماضي، رؤى فلسفية وعلمية للصراع قدمت في محطات كثيرة إسهامات رائعة للبشرية كاكتشاف الفضاء وساهمت في دفع الإنسانية سنوات ضوئية إلى الأمام. لكن ما كان يخاف منه كثر قد حصل أخيرا، سقط الاتحاد السوفياتي وانتصرت الولايات المتحدة الأميركية وسادت قيمها العالم.

سقط السوفيات لأنهم لم يفهموا حقيقة العالم ومتغيراته، كانوا يخاطبون أبناء الثمانينيات والتسعينيات بلغة الخمسينيات، متناسين تلك السنوات الضوئية التي قفزت بالبشرية إلى الأمام. أما على الضفة الأخرى، فكانت أميركا ونظامها الجديد للعالم أكثر مرونة وواقعية، دخلت جميع البلدان وحلت على جميع الشعوب كنعمة مخلص في لحظة تاريخية مصيرية ضجر العالم فيها من دعايات الشيوعية وأحلامها الواهمة.

نظام اليوم:
منذ التسعينيات حتى اليوم حكمت أميركا العالم ووضعت نظاما عالميا جديدا شعاره الأساسي الديمقراطية والسوق الحرة وأدواته منظمات الأمم المتحدة والمؤسسات الأميركية لحقوق الإنسان والشركات المتعددة الجنسيات. وبسرعة البرق أصبحت مأكولات الهمبرغر وجبات أساسية تؤكل في قلب آسيا والكرملين وصحاري أفريقيا، وتحول الجينز إلى ثياب يومي يلبسه اللاتيني والشرق أوسطي والأوروبي. كانت هذه الإشارات بداية انطلاق لعالم اليوم الذي يطمح أن تكون دولته كأميركا أو بالحد الأدنى أن يهاجر إليها.

وأدركت أميركا أن نشر هذه الأفكار حول العالم سيساهم في تعزيز مكانتها وسلطتها على العالم فتحولت السلع والقيم الأميركية بين لحظة وضحاها إلى معايير رسمية وشروط أساسية ومطلوبة لدى العديد من الشركات وأنظمة الحكم في العالم. هذا الشيء تلحظه في الجانب العسكري حول العالم، فالسلاح الأميركي هو السلاح الرسمي للعديد من جيوش العالم كبندقية إم 16 أما الكلاشينكوف فهو سلاح الميليشيات والعصابات الخارجة عن القانون. هذه المقارنة المبسطة هي مثال صغير لعالم اليوم فكل ما هو أميركي ويتوافق مع القيم والشروط الأميركية هو ضمن النظام ومن هو مخالف لذلك هو خارجه وستحل عليه لعنة العقوبات والإرهاب ومذكرات جلب الإنتربول الدولية.

شبكات التواصل الاجتماعي:
لم تتوقف أميركا عند هذا الحد، فهي تعرف كيف تسيطر على المتغيرات وهذا سر نجاحها، فأطلقت ذراعها الاستراتيجي حول العالم المتمثل بشبكات التواصل الاجتماعي كالفايسبوك وتويتر وانستغرام وغيرها. هذه الشبكات ستعزز من ثقافة معينة عملت أميركا على تكريسها وهي العولمة وتحويل العالم إلى قرية كونية، وهو هدف تراه أميركا صالحا لمستقبل البشرية. وبعيدا عن أي نظرية من نظريات المؤامرة، كانت أميركا تقدم نفسها على أنها شركة ذات خدمات كما تهواها الشعوب على رغم الحقد.

معادلة النظام العالمي:
ولتكريس هذا النظام، كانت أميركا ومعها كيانات سياسية واقتصادية وعسكرية قوية كاليابان وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والبنك الدولي والناتو، يعملون وفق معادلة يراها خبراء في الغرب الطريق الوحيد إلى الجنة. تتلخص هذه المعادلة في عولمة الاقتصاد وجعل النظام السياسي ليبراليا. فالعولمة والليبرالية هما المفتاحان لحل مشاكل العالم وأينما حلا سيكون هناك تقدم كما هو الحال في أميركا وأوروبا، وأينما غابا سيحل التخلف والجهل والأمية والحروب كما هو الحال في أفريقيا والعالم العربي.

تتجلى حقائق نظام المستقبل أكثر بانفتاح العالم على بعضه وعولمة السياسات عبر تبني الليبرالية وأدواتها كخيار للأنظمة السياسية كبداية لمعالجة مشاكل العالم وقضاياه وعولمة الاقتصاد. لكن ما هو مؤكد أن الاستثمار في مشاريع اكتشاف الفضاء سيأخذ حيزا كبيرا في آلية عمل هذا النظام.

لأجل ذلك لا بد من فتح الأسواق العالمية على بعضها البعض وتعزيز ليبرالية الأنظمة السياسية عبر تبني قيم الحرية والديمقراطية والمساواة وهي قيم سنراها مكرسة في الدستور الأميركي وتعتبرها أميركا امتيازات تاريخية خاصة بها.

وفي مرحلة متقدمة من عمر هذا النظام تتشبك مشاكله أكثر وتكثر عراقيله لذلك يقترح البعض التخفيف من وطأة سياسات الدول الوطنية على حساب تقديم حلول عالمية لمعالجة الأزمات. من هؤلاء المفكر يوفال هراري الذي يقترح فكرة تكريس العولمة كخيار تتبعه الدول على حساب الحلول الوطنية ويرى أن المشاكل الكبيرة يجب أن تدار عالميا عبر حكومة عالمية لا عبر الدول الوطنية التي في الكثير من الأحيان تضع مصالحها القومية كأولوية. ومن هذه المشاكل نذكر الاحتباس الحراري والتغير المناخي ومشكلة اللاجئين والمجاعة والتصحر والإرهاب وقضايا حقوق الإنسان وهذه مشاكل لا بد من حلها عبر عولمة السياسة كما تم عولمة الإقتصاد سابقا.

أضف أن هناك مشاكل البطالة والفقر والتي بدأت العديد من البلدان العمل على تبني سياسة الدخل الأساسي الشامل والذي يراه هراري فعالا في حال عولمته لا حصره محليا. وإلى جانب هذه المشاكل هناك قضايا تهم مستقبل البشرية كالأتمتة واكتشافات الفضاء وهي قضايا لا يمكن إحراز تقدم فيها وتجنب أي مشاكل قد تنتج عنها إلا عبر العولمة. فلو توحدت مثلا جهود ناسا ووكالات الفضاء الأوروبية والروسية والصينية بطريقة أكثر فعالية مما هو الحال اليوم فسيتم إنجاز العديد من الاكتشافات بوتيرة أعلى ما سيضمن مستقبلا آمنا للبشرية في ظل الغموض السائد حول وجود مخلوقات فضائية وكواكب صالحة للحياة، وهو ما تعد له ناسا برامج مخصصة كإيصال البشر إلى المريخ والاستيطان فيه.

لذلك تتجلى حقائق نظام المستقبل أكثر بانفتاح العالم على بعضه وعولمة السياسات عبر تبني الليبرالية وأدواتها كخيار للأنظمة السياسية كبداية لمعالجة مشاكل العالم وقضاياه وعولمة الاقتصاد. لكن ما هو مؤكد أن الاستثمار في مشاريع اكتشاف الفضاء سيأخذ حيزا كبيرا في آلية عمل هذا النظام وتفكير علمائه ومنظريه غير متناسين ما سينجزه الذكاء الاصطناعي وأدوار الروبوت وتعقد الخوارزميات وما سيغيره من سلوك البشر وشكل المجتمعات وطبيعة الحياة والأولويات في المستقبل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.