شعار قسم مدونات

لا تجعلي من نفسكِ صباحًا أُخرى

blogs فيروز

بالنّظر مليًا إلى ذلك الفيديو الذي يُقال أن أبنة فيروز "ريما الرحباني" قد "سربته" على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي.. وبعد تفكيرٍ منصف جدًّا من المفروض جميعًا أن نقول "الله يرحمك يا ست". طبعًا أقصد بالست، "الست" المعروفة بهذا اللقب، "أم كلثوم!" المرأة التي ظلت تُغني حفلات صاخبة يملؤها المئات والمئات من الحاضرين هائمين فيما تُغني به!

 

حسنًا.. لنُفند الأمر.. أم كلثوم ظلت تُغني لسن ما بعد الـ٧٠ (تخيل جدتك العجوز الطاعنة تقف على مسرح وبينها وبين الميكروفون مسافة ٣٠ سم لأعلى وتقول "آآآهـا" ويرد الجمهور طربًا "تاني يا ست"، والست تُكرر ثانية عادي جدًّا)!

نعم ببلوغها السبعين قد غلُظ صوتها وتقعر الحِس ليجعل لأي مقارن بين تسجيلاتها وهي في الثلاثينيات وتلك الأخيرة في حياتها يجد الفارق بسهولة سماكة الحِس بمقياس الأربع مرات مثلا! لكن، وهنا المعجزة فعلًا، لو أمسكنا شوكة هرتز (وهي آداة نحاسية على شكل شوكة تستخدم لقياس ذبذبات الصوت) نجد ثبات النبرة أو ما يُعرف بالـ "tempo" بين منخفض ومرتفع ثابت غير متذبذب، بمعنى أن النّفَس لا يتقطع في المرتفعات في النغمة العالية (مثلا: ما تصبرنيش بوعود) وبعدها فجأة في نغمة منخفضة (وأهي غلطة)!

سبب قوة وثبات حِس أم كلثوم هو الصحة والبنية الجسدية المؤسسة بمنأى عن كيماويات وتلوث، وتدريبها منذ سن حديثة جدًّا على النبرة العالية الثابتة وكذلك عدم احتساءها أي كحوليات أو شربها السجائر التي تسبب غلاظة الصوت وخشونته

لم يُسجل لمُطربة في العصر الحديث كله (منذ سنة 1800 مثلًا حتى اليوم) تلك المقدرة ببلوغ تلك السن! على الأقل فيما تم تأريخه! في حدود معرفتي بالمطربين شرقًا وغربًا لم يستمر على الثبات "الهرتزي" لسن متأخرة كما فعلت الست إلا قلائل كـ فريد الأطرش، ودين مارتن، مطربة الأوبرا الشهيرة ماريا كلاس! والثلاثة – للمصادفة – قد ماتوا بمرضٍ في القلب! ولقد كنّا لنضع "حليم" في القائمة.. لكننا نتكلم هنا عمن تعدوا سن الستين في مقدرة ثبات النبرة الصوتية!

قد نقول أن سبب قوة وثبات حِس أم كلثوم هو الصحة والبنية الجسدية المؤسسة بمنأى عن كيماويات وتلوث، وتدريبها منذ سن حديثة جدًّا على النبرة العالية الثابتة وكذلك عدم احتساءها أي كحوليات أو شربها السجائر التي تسبب غلاظة الصوت وخشونته، وكذلك التمرينات الصوتي الذي لم تتركها إلا في آخر سنين حياتها- كما ورد في إحدى الوثائقيات عن حياتها!

 

لكن نفس الأسباب من الصعب تطبيقها على بقية أفراد القائمة أعلاه، على الأقل "دين مارتن" الذي أعتاد أن يُحي حفلاته بصوتهِ الرخيم الرائع ممسكًا بـسجارة وكأس مارتيني! أما عن فيروز.. حسنًا لقد ظلت فيروز طوال حياتها في منأى عن المقارنات.. لأنها جاءت بالبسيط الممتنع! والتكرار دخل حيّز صعب جدًّا.. وكنا لنظل سُعداء لو فيروز كانت بالذكاء الكافي لتفهم أن الأسطورة لن يُزيدها بريقًا أغنية "أخيرة" تُخرجها من "الفريزر" مُجمدة ومطلوب منّا أكلها ونقول الله.. ككل شيء فاقد الطعم واللون في حياتنا!

جاءت أغنيتكِ، حسنًا كلمة أغنية ستصبح كبيرة لوصف ما قد حدث، وحيدة فعلًا وسط تاريخ من جمال صوت وتفرَّد نغمات لفيروز، وبعيدة.. جدًّا.. جدًّا.. على مقدرة أمزجتنا على تحمل المزيد لمجرد أنها "ماركة"

وكذلك كان من المفترض من أبنتها ألا تُمارس علينا اللعبة المعروفة فيما يُمسى "التسويق اعتمادا على الماركة" أو "Selling by brand"، وهي استراتيجية اقتصادية معروفة جدًّا تنص على أن "الكبير كبير" أو بشكل علمي دقيق "باستطاعة الماركة عالية السمعة الاستمرار في بيع أي شيء وإن كان غير ذي قيمة اعتمادا على سنوات من الثقة والجدارة اكتسبتها من جمهورها!" تماما كما يفعل دار أزياء "سانت إيف لورانس" كل عام ببيع أزياء قِمة في الابتذال والخبّال بملايين الدولارات سنويًا اعتمادا على نفس الاستراتيجية!

 

كان ذلك مؤلمًا يا فيروز على الأقل علينا نحن مُحبينك المُخلصين، الذين تفتحت عيونهم يومًا على السَّمَاء بأوّل أغنية غنوها في حياتهم لكِ "عيوننا إليك ترحلُ كل يوم"، ولأننا فاهمين تقريبًا كل اللعبات "الصايعة!" أو ربمّا لأنكِ جعلتينا نشعر دونما قصدٍ منكِ أننا- بدورنا- قد أصابنا "العجز"… جدًا.. أيضًا!

فجاءت أغنيتكِ، حسنًا كلمة أغنية ستصبح كبيرة لوصف ما قد حدث، وحيدة فعلًا وسط تاريخ من جمال صوت وتفرَّد نغمات لفيروز، وبعيدة.. جدًّا.. جدًّا.. على مقدرة أمزجتنا على تحمل المزيد لمجرد أنها "ماركة". عزيزتي فيروز.. هناك ثمة حكمة أسطورية تقول "الكافي، كافي"… وليس ثمة بأسً في التقاعد بعد صُنع الأسطورة بشكلٍ مُحكم.. لا تجعلي من نفسك "يا نجمة الصباح".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.