شعار قسم مدونات

كن نسراً أحياناً وآكل نملٍ أحياناً أخرى

مدونات - نسر

المشهد 1: عام 1720 ميلادي.. بالقرب من ميناء الجزائر..
في جو يملؤه الضباب، 5 سفن إسبانية تحاصر سفينة تجارية جزائرية تحاول دخول الميناء الذي يتوسطه المدفع العثماني العملاق..
المشهد 2: المدفع العثماني بصورة أقرب.. تمتد يد غليظة إلى المدفع.. تحدث شرارة في فتيل البارود فيشتعل وتأخذ الشرارة طريقها إلى داخل المدفع و"بووم!" تنطلق الذخيرة من فوهة المدفع صوب السفينة الإسبانية الرئيسية.
 
عين الطائر أو "Bird s eye" هي إحدى تقنيات المنظور الشهيرة في الهندسة المعمارية والمستعملة كذلك في العديد من الإنتاجات البصرية كالأفلام واللوحات الفنية والغرض منها إعطاء نظرة شاملة للمكان الذي تدور فيه الأحداث (كالمشهد 1 ) وقد يستعمل نفس المبدأ من أجل دراسة الأحوال والرؤى بشكل عام في مجالات أخرى، بالمقابل نجد تقنية عين النملة "Ant s eye" والتي تعنى بإظهار تفاصيل الأشياء والتركيز على الجزئيات (كالمشهد 2). 

أحيانا من فرط الحماس أشعر أنه يتعين علي حل المشكل الذي أواجهه اليوم قبل غروب الشمس فإن لم أنجح في ذلك يتملكني شعور رهيب بالإحباط لفشلي في مهمتي، في حين أن الأمر كان يحتاج تدرجا وصبرا وطول نفس.

يكون الطموح في بدايته عاما وشاملا ويركز على نوع الإنجاز والدافع إليه وكيفية ظهوره في النهاية، لكن أثناء التطبيق نحتاج إلى الغوص في تفاصيل كثيرة قد يغرق فيها البعض وينجو منها البعض الآخر وفي أغلب الأحيان يجد الإنسان نفسه قد حاد عن طريقه قليلا أو أنه قد ضيع فرصا أتيحت له في وقت ما.. الحياة أكبر من أن يكون لك فيها هدف تسعى إليه في طريق مستقيم إذ لابد أن تكون فيه منعرجات وعقبات والكثير من مفترقات الطرق، فكلما كان هدفك أسمى وأعلى في الأفق كلما حققت في طريقك أهدافك الجزئية والتقيت أناسا رائعين يشاركونك الهدف ويدفعونك وتدفعهم إلى الأمام خلال تلك المنعرجات..

 رغم ذلك قد تواجهون مفترقات طرق يضطر فيها الكل إلى الذهاب في طريقه، عندها ستقف حائرا تنظر يمينا وشمالا ثم إلى الخلف، إلى ذلك الطريق الذي مشيته طول هذا الوقت ثم إلى الأمام، إلى ما بقي من منعرجات وتضاريس تحجب عنك الرؤية، لا عليك يا آكل النمل، استرح قليلا فقد أتعبك طول الطريق وفراق الأحباب ودع النسر يحلق ليتأكد مما مضى وينير لك ما هو آت فلعلك نسيت شيئا خلفك كان هو حافزك للمضي قدما أو أنك نسيت وجهتك الحقيقية وراء كل هذا التعب فاترك النسر يذكرك بهدفك الأسمى، قد يكون ذلك بسجدة في جنح الليل أو بخلوة في حضن الطبيعة أو في دمعة فقير حين يرى ابنه مبتهجا بالملابس التي قدمتها إليه صباح العيد.

أحيانا من فرط الحماس أشعر أنه يتعين علي حل المشكل الذي أواجهه اليوم قبل غروب الشمس فإن لم أنجح في ذلك يتملكني شعور رهيب بالإحباط لفشلي في مهمتي، في حين أن الأمر كان يحتاج تدرجا وصبرا وطول نفس لأن المشكل في حد ذاته لطالما أرّق السابقين وكتب عنه الباحثون بآراء متباينة ومختلفة، إذن فالحل هنا يكون نسبيّا ونحتاج في ذلك إلى تغيير مقياس النجاح فيه ومدّته كما أن النسر باندفاعه وحيويته وقدرته على الطيران غير قادر على القيام بهكذا مهام لذلك فهي مهمة آكل النمل البطيء الصبور الذي تمرّس الأرض ومنعرجاتها ولا يأبه بقساوة الأشواك والحصى تحت رجليه، نعم الحصى! بعض مشاكلنا في حقيقتها مجرد حصاً لو ندرك قيمة ما نحن بصدد تحقيقه، لكنها تعتبر عائقا كبيرا للنّسر إذا ما قرر أن يمشي برجليه على الأرض!

من أجمل ما علمني أحد أساتذتي بالجامعة والذي أعتبره أيضا صديقي أن الزكاة ليست خاصة بالمال وحده بل لكل شيء نحصل عليه في الحياة زكاة، فهناك مثلا زكاة الصحة وزكاة السعادة وزكاة العلم إذ عندما يبلغ أحد هذه الأشياء نصابه وجب تزكية قدر منه لضمان استمراره ونماءه ويكون ذلك بالتطوع، حيث لا يمكن للإنسان أن يسعى لإنجازاته الشخصية متجاهلا من حوله كما لا يمكنه أن يعطي شيئا هو أصلا فاقده فملأ الرصيد ثم التزكية منه بعد بلوغ النصاب يحقق التوازن.

ما الذي يطمئن عابر السبيل أكثر من استمرار مشيه في الطريق الصحيح رغم تعبه، وما يطمئنه حين يدرك أنه في الطريق الخاطئ أكثر من قدرته على العودة إلى مساره الصحيح.

إذا كنا في خضم العمل نكون في أقصى درجات النشاط ونريد أن نزيد من الوتيرة أكثر فأكثر، وإذا كنا في مرحلة خمول فإننا نحس أنه يجب علينا الراحة من هذا الخمول فنزيد كسلا فوق الكسل، أما المرحلة التي بينهما فهي مرحلة القرارات، غالبا ما تكون فترة راحة بعد تعب لكنها ليست بالضرورة راحة ذهنية فهي أكثر المراحل التي تتطلب استخداما للذهن فبعدها إما نشاط وإما خمول، لذلك فالراحة الذهنية تكون في العمل والراحة الجسدية تكون في التفكير وقلّ ما تكون إجازة لهما معا، وهذا ما تجسده الآية الكريمة "خُلِقَ الإنسانُ في كَبَد" أي لا راحة لك أيها الإنسان في هذه الدنيا..

لكن هذا لا ينفي راحة البال بل على العكس فذلك بالضبط ما يحققها، فما الذي يطمئن عابر السبيل أكثر من استمرار مشيه في الطريق الصحيح رغم تعبه، وما يطمئنه حين يدرك أنه في الطريق الخاطئ أكثر من قدرته على العودة إلى مساره الصحيح، يقول ويليام جيمس "ليس هناك من هو أكثر بؤسا ممن أصبح الإقرار عادته الوحيدة"، فما منا من أحد إلا وسيخطئ طريقه في مرحلة ما لا محالة ولكن تلك القدرة على العودة هي التي تحدد نجاحنا من عدمه. 
 
يلوح النسر في الأفق عائدا بالأخبار السارة، مليئا بالذكريات والخطط، ذكريات تدفعك إلى الأمام وخطط تصحح لك الطريق، يتلقفها آكل النمل بشغف، ينظر إليها متمعنا ويشتعل إصرارا من جديد، يحط النسر على ظهر آكل النمل ثم يلوي جسمه مرتعشا ويصفق بجناحيه ويعدلهما وقد نفد صبره، "آن الأوان يا صديقي فانطلق!" يلتفت إليه آكل النمل بابتسامة وقورة ثم يرجع إلى الأرض بحزم مركزا في تفاصيل الطريق..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.