شعار قسم مدونات

صناعة داعش

blogs - isis
منذ أن ظهر تنظيم "داعش" إلى مسرح الأحداث، بدأت جميع الدول الإقليمية والدولية تتهم بعضها البعض بصناعة هذا التنظيم المرعب، فالدول الخليجية ومن خلفها المعارضة السورية اتهمت النظام السوري والإيراني بالوقف خلفه، والنظام السوري بدوره قام باتهام أغلب الدول المنطقة بصناعته فتارة يخبرنا أنه صناعة تركية أمريكية وتارة أخرى يتهم الدول الخليجية بتمويل التنظيم ودعمه.

السجال حول صناعة تنظيم "داعش" لم يقتصر على تبادل الاتهامات بين النظام السوري والدول المناهضة له، فأمريكا زعمت أيضاً أن تركيا تدعم تنظيم "داعش"، وأفغانستان اتهمت أمريكا، والجميع يزعم أنه يملك أدلة ضد الطرف الآخر بأنه من يقف خلف هذا التنظيم المتوحش. وبينما انشغلت الدول باتهام بعضها البعض، بدا الجميع تائهاً يبحث عن تفسير منطقي لظهور التنظيم، فتحدث البعض عن نظرية المؤامرة، بينما تحدث آخرون عن الديكتاتورية ودورها في صناعة العنف، وهناك مجموعات لا بأس بها، عزت هذه الظاهرة إلى الفكر المتطرف، والنصوص الدينية والتاريخية التي تغذي ظهور مثل هذه الجماعات.

ربما يبدو النظام السوري المستفيد الأكبر من كل هذه الفوضى، لكن الاستفادة من ظهور التنظيم ليست سبباً كافياً لتوزيع الاتهامات، حتى الأنظمة التي لا علاقة لها بالأحداث استغلت التنظيم كذريعة لتنفيذ أجندتها القمعية.

لكن الملاحظ أن جميع هذه التفسيرات والتحليلات كانت تمهل الحقائق والمعطيات المتوفرة عن التنظيم، وتوزع الاتهامات وفق رغبتها أو معتقداتها المسبقة، فالمعارضون للأنظمة القمعية يتحدثون عن القمع والظلم، والمناهضون للتراث والنصوص الدينية يتحدثون عن الفكر المتطرف والمناهج الدينية، أما الدول فهي تتهم بعضها البعض وفقاً للمصالح السياسية. ويبدو أن هذه السطحية في توزيع الاتهامات، وهذا السجال غير المنتهي، كان مقصوداً من الجميع، فالكل يريد أن يستفيد من حالة الضبابية التي تكتسيها طبيعة التنظيم وطريقة ظهوره ليتهم الطرف الآخر بأنه المسؤول عن ما وصلت إليه الأمور.

للوهلة الأولى، ستبدو جميع الاتهامات والتفسيرات منطقية على تناقضها، فلولا وجود الفكر المتطرف الذي يتغذى على النصوص الدينية لما وجدنا هذه الأعداد البشرية الكبيرة التي يستخدمها التنظيم في معاركه، ولولا وجود كمية هائلة من الظلم والقمع لما ظهرت هذه الحروب والنزاعات، ولما وجد التنظيم مكاناً له في دولنا العربية. ورغم ذلك، فلا يمكن لأحد أن ينكر أن النظام الإيراني والسوري كانا أكبر المستفيدين من ظهور تنظيم "داعش"، فظهور التنظيم سمح بتحويل بوصلة المعركة من إسقاط الأنظمة إلى مكافحة الإرهاب، كما أنه نكل بخصومهم من العراقيين والسوريين أكثر مما فعل معهم.

بيد أن هذه الاستفادة لم تقتصر على النظام السوري فقط، فتركيا استفادت أيضاً من ظهوره و وضعت لها موطئ قدم في الشمال السوري، وأمريكا أيضاً أنشأت قواعد عسكرية في سوريا، وهاهم حلفاءها من الأكراد يكتسحون الشرق السوري تحت ذريعة مكافحة الإرهاب. ربما يبدو النظام السوري المستفيد الأكبر من كل هذه الفوضى، لكن الاستفادة من ظهور التنظيم ليست سبباً كافياً لتوزيع الاتهامات، حتى الأنظمة التي لا علاقة لها بالأحداث استغلت التنظيم كذريعة لتنفيذ أجندتها القمعية. غير أن هذا ينفي أن التنظيم برمته هو صناعة مخابراتية بامتياز، فلولا علامات الاستفهام الكبيرة التي تحيط في بنية التنظيم وسلوكه لما وجدنا هذا الكم الهائل من الاتهامات المتبادلة، فنحن لا نكاد نعرف شيئاً عن قيادات التنظيم، حتى زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، لم نسمع به ولم نعرف عنه شيئاً قبل خطبته الشهيرة في مسجد الموصل، والتي كان واضحاً أنها جاءت لإيقاف علامات الاستفهام المتزايدة حول التنظيم.

نستطيع أن نكتشف أن داعش أصبحت فكرة عابرة للدول، وأن استخدامها لا يحتاج أن تكون على تواصل مع أبوبكر البغدادي أو مشغليه، يكفي أن ترفع علماً أسوداً وتبدأ بالتنكيل بالآخرين حتى تكتسب هذه العضوية المميزة.

وحتى اللحظة، ورغم أن التنظيم أوشك على الاختفاء فنحن لا نعرف عن التنظيم أكثر من تلك الروايات المتناقضة التي تغزو الإعلام، فتارة يخبروك أن قيادات بعثية هي من تقود التنظيم، وتارة أخرى يزعمون أن هذه الأموال الهائلة التي يملكها تأتي من تصدير النفط! علماً أننا لا نعرف قيادياً بعثياً واحداً نستطيع التأكد من خلاله من هذه المعلومات، ولا نعرف اسماً بعثياً واحداً من النظام العراقي السابق يعمل بالتنظيم، وأن تصدير النفط يحتاج إمكانيات هائلة وعلاقات دولية حتى يتم، فعلى فرض أن تجاهلنا أن تصدير النفط يحتاج إلى شركات تقوم باستخراجه، فمن هي هذه الدول والجهات التي تشتري نفط "داعش"؟!

كل هذه المعطيات تقودنا إلى أن هذا التنظيم هو صناعة دولية، وأن هذه الدول استطاعت أن تستغل بذكاء وجود القمع والفكر المتطرف من أجل صناعة التنظيم و توجيهه لصالحها، أما من هي الدولة صاحبة السبق في صناعة هذه الفكرة الخبيثة، فهذا سؤال يحتاج إلى معلومات ودلائل حقيقية، ولا يمكن الإجابة عليه بحادثة هنا أو هناك. لكن الثابث حتى الآن، أن جميع الأنظمة استفادت من فكرة "داعش" وبدأت استخدامها لمصلحتها، وأن الخاسر الأكبر هي الشعوب والثورات، فبنظرة بسيطة على اليمن وليبيا، نستطيع أن نكتشف أن داعش أصبحت فكرة عابرة للدول، وأن استخدامها لا يحتاج أن تكون على تواصل مع أبوبكر البغدادي أو مشغليه، يكفي أن ترفع علماً أسوداً وتبدأ بالتنكيل بالآخرين حتى تكتسب هذه العضوية المميزة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.