شعار قسم مدونات

حضن الوطن

blogs - عودة اللاجئين السوريين من تركيا إلى سوريا
الوطن لم يعد حضنا فقط، بل صار قبرا للأحياء والأموات، وصف الوطن كثيرا بالسقف و البيت، لكن وصفه بالحضن كان أكثر من وصفه بالسقف.. ربما لأن الدواجن تحب الأحضان والأب القائد الذي دّجن الشعب ليحبه، فصار الشعب يحب الحضن أيضا.
في عالم الحيوان والنباتات هناك كائنات لا تعيش إلا في حضن كائنات أكبر منها، هي الطفيليات، تماماً كهؤلاء الذين عادوا لحضن الوطن، لكن السؤال لمَ عاد هؤلاء إلى حضن الوطن، وقد أغرتهم الثورة بحضنها؟ هل هو الحنين إلى الوطن والأهل والحي الأول ما دفع هؤلاء للعودة؟ أم هي الجاذبية الروحية؟
حتى لو كان الحنين هو الدافع، كان يمكن لهؤلاء أن يعودوا إلى حضن وطنهم بهدوء وصمت، لكنهم عادوا بعرس، كما خرجوا بعرس، عادوا لحضن وطن لا ماء فيه ولا شجر، لم يبق منه سوى قفص صدري وركام عظام.

قد يكون من أسباب عودتهم أن المعارض التائب العائد إلى حضن الوطن، اختبر شرف المعارضة فلم تعجبه. لأن الطأطأة مفيدة للمصابين بالجنف وانحناء الظهر من شدة الركوع، والاستقامة متعبة. تماماً كمشهد سينمائي ظهر في فيلم "سوق المتعة" لـ محمود عبد العزيز.

في أيام الثورة الأولى، ذهب نقاد ومؤرخون إلى تسميتها بالانتفاضة وسماها مؤيدو نظام الأسد بالفورة، وليست ثورة، كانت تلك قراءة تعويضية تستعجل الثمار، فصيف الربيع العربي وحصاد الربيع لم يأت أوانه بعد، حصاد المؤمنين هو في يوم الحساب، في الآخرة. كان الجند والضباط ينشقون، ويظهرون على الشاشات في أوكازيون الانشقاق، وها هو الانشقاق المعاكس قد أتى أوانه. أو أن هؤلاء لم ينشقوا حقيقة، وإنما كانوا مندسين، وليسوا منشقين! كانوا حمير طروادة، فالذين عادوا إلى حضن الوطن أميون، أقرب إلى الحمقى، كيف نصفهم بهذا الوصف وفيهم ضباط وزعماء عشائر؟ ينطبق عليهم قول عليه الصلاة والسلام على الأقرع بن حابس: "أحمق مطاع". لكن أمثال بن حابس كانوا قلة في العصر الجاهلي، أما اليوم فهُم وباء وطاعون ونقص مناعة مكتسبة.. نحن اليوم محكومون بالحمقى، لا يُطاع فينا إلا الحمقى، ولا يتكلم فينا إلا الحمقى، ولا يعلو صوت إلا صوت الحمقى.. والدول الغربية التي تمنح الشرعيات لا تمنحها إلا "لأهل الشر" والحمقى..

فهذا الوريث الجمهوري السوري قد واسى نفسه يوماً "بالحديث عن المُنشقين" قائلا: "إن الجيش والدولة تتنظف ذاتيا". أما نحن فنقول: لقد كانت الثورة ملوثة، انضم إليها من دبّ ودبّ، وكان أكثرهم من ذوات الأربع، ومنهم من لا يجيد سوى الزحف على بطنه. بل، قاد الثورة إعلاميون منشقون ومندسون، وإعلاميون دسّتهم وتبنتهم جهات دولية، لا يزال مأمونا لديها، وكانت الثورة بقيادات كثيرة، كثيرة جدا، بحيث تضل السفينة، وتغرق في اليابسة، اليوم ذاب الثلج وبان المرج، وراحت السكرة وبانت العورة؛ وعاد معارضون اندسوا في المعارضة، وسرقوا ونهبوا الأموال من الجيوب، والألوان والأضواء على التلفزيونات، ونالوا شرف المعارضة.

قد يكون من أسباب عودتهم أن المعارض التائب العائد إلى حضن الوطن، اختبر شرف المعارضة فلم تعجبه. لأن الطأطأة مفيدة للمصابين بالجنف وانحناء الظهر من شدة الركوع، والاستقامة متعبة. تماماً كمشهد سينمائي ظهر في فيلم "سوق المتعة" لـ محمود عبد العزيز، وكان قد سجن بريئا، فخرج من السجن وبنى بأموال المكافأة التي حصل عليها من المجرمين، سجنا مثل الذي قضى فيه عقوبته، بسبب الإدمان والحنين والاعتياد على الذل المبين، حتى إنه لم يستطع أن ينام مع حبيبته "إلهام شاهين"، فكان قد تعود على "الاكتفاء الجنسي الذاتي".. هؤلاء نسيوا أو تناسوا أن الإنسان أغلى من الوطن، وأن الكرامة هي رأسمال الحياة. 

كان الوطن مزرعة الرئيس وآل الرئيس، يزرع فيها اليأس والخوف والمخدرات الوطنية، وكنا نحصدها، كل حبة خوف تنبت سبع سنابل، واليأس أضعاف مضاعفة. دفعنا أموالنا وأهلينا ثمنا للغربة التي كانت عقوبة تعزيرية فقهية عندما كانت الديار ديارا.

ثمة حكاية قرر فيها تاجر الزيت الحج إلى بيت الله، فكف عن بيع الزيت المغشوش توبة إلى الله، وقرر بيع الزيت الصافي، لكن الزبائن الذين تعودوا على الزيت المغشوش، اتهموه بغش الزيت، فاضطر إلى العودة إلى الغش تحت طلب الجماهير، فعاد إلى حضن الوطن! في لوحة للفنان علي فرزات، فيها يضحك ناس لهم ذيول حمير من إنسان كامل في أحسن تقويم، لأنه بلا ذيل، ومن شبّ على شيء شاب عليه. أظن أن المقصود بحضن الوطن لدى هؤلاء، هو البوط المقدس، فهؤلاء العائدون إلى حضن الوطن مثليون وطنيون، هم "مثل" الرئيس، ومثل المخبر.

يقول فولتير: "إن وقوفي لحظة واحدة بريئا في قفص الاتهام، ينسيني ألف قول عن حضن الوطن، وعدالة الوطن، وجمال الوطن". ونحن في سوريا متهمون تحت الطلب، ولا نبرأ من التهمة إلا بالموت. كثير من المتهمين من الموتى، فهم لا ينجون من التهمة حتى بعد الموت.

كان الوطن مزرعة الرئيس وآل الرئيس، يزرع فيها اليأس والخوف والمخدرات الوطنية، وكنا نحصدها، كل حبة خوف تنبت سبع سنابل، واليأس أضعاف مضاعفة. دفعنا أموالنا وأهلينا ثمنا للغربة التي كانت عقوبة تعزيرية فقهية عندما كانت الديار ديارا. اقتحمنا البحار، وواجهنا أسماك القرش لنكون لاجئين، هربا من حضن الوطن الخانق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.