شعار قسم مدونات

من الموكل عن الله بتطبيق الشريعة على أرضه؟!

مدونات - القرآن
الشريعة الإسلامية الغائبة الحاضرة، غائبة عن التطبيق في المجتمعات الإسلامية دائمة الحضور في أجندة من تصدروا الوكالة بتطبيقها، نموذج بشقيه الغائب والحاضر قد بدأ في منتصف القرن الماضي وتحول إلى شعارات امتزجت في العقلية الفكرية لدى سامعيها فأحالتها سلوكاً وعواطف جياشة، حيث باتت الشريعة مطلباً تعلقت به النفوس واجتمعت على محاولة إعادته الحركات الفكرية والتيارات الجهادية.

ففي سوريا التي تعتبر إحدى الدول التي اجتاحتها موجة الربيع العربي بدا الخطاب الديني جلياً خلال سنوات حربها مع النظام، لا سيما في المناطق المحررة منها والذي اتكأ داعموه على قدم ثالثة نتيجة تقوض بنيانهم، وأزعم بأن السبب في تمكنهم من الاستمرار رغم أخطائهم الفادحة إنما هو توظيفهم لتراكم الفراغ العاطفي الديني الذي حرم منه الشعب السوري تحت مظلة كبت لا يضاهيه حدود خلال سنين طويلة، والذي من المحال كبح جماح سيله الجارف إذا ما أتيح له أن ينطلق من عقاله، وذلك رغم غياب شكله ووجهته، فالمفاهيم في الحقيقة مبهمة غير معرفة، والمعرف منها غير متفق عليه، ومع ذلك فقد أطلق أصحاب هذا التيار العنان لتلك العاطفة لتتفلت من عقالها في بيئة مليئة بالفوضى الفكرية المتعاركة، فاستحالت قوة عسكرية باتت تستخدم فوهات البنادق في إنفاذ قوانينها التي لا يراها أتباعهم سوى تطبيقاً للشريعة المعطلة!

فهل هي حقاً كذلك؟ وهل استطعنا أن نحرر مفهوم الشريعة قبل تطبيقها كيلا نضع العربة أمام الحصان؟! في الحقيقة إن المشكلة الدائرة حول الشريعة تتلخص بنقاط ثلاث، الأولى: اختزال الشريعة بالحدود.. الثانية: من وكيل الله بتطبيقها؟ الثالثة: الافتقاد لنقطة توازن بين الحرية والشريعة.

الشريعة الإسلامية بمعناها الواسع العميق ما كانت ولن تكون مضيقة على حرية أحد من الناس، وهذا الخلاف في الحقيقة لم يظهر إلا عندما تنافس في قيادة المجتمعات كلا التيارين العلماني والسلفي، فالعلمانية ترى أن تطبيق الشريعة يعطل حرية الناس، والسلفية ترى أن في الحرية خطراً على تطبيق الشريعة.

ترهف سمعك اليوم لمن يطالب بتطبيق الشريعة؛ فلا تسمع سوى الزاوية الضيقة المقتصرة على إقامة الحدود، والحقيقة أن الشريعة أوسع معنى من هذا الحصر الضيق لها، وهي التي لم ترد في القرآن الكريم سوى مرة واحدة (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) وجاء معناها في التفاسير أنها الدين كله. فالشريعة إنما هي الإسلام كله وإن أهم ما في هذا الإسلام إنما هي العقائد، يليها بعد ذلك القيم، ثم تأتي الشعائر، وفي النهاية القوانين، وهنا أشير إلى نفق الاختزال الذي عبرته الشريعة خلال مسيرتها، فالصوفيون هم أول من جزأ الشريعة عندما تحدثوا عن الحقيقة والشريعة، أي الجانب الظاهر من الإسلام وجانب القيم الروحية والتربوية منه، وفي مرحلة لاحقة جاء بعض العلماء فتحدثوا عن العقيدة والشريعة باعتبارهما جزأين منفصلين، واستمر الاختزال إلى أن تحولت الشريعة إلى مجرد الأحكام، بل ضاق نطاقها لتشمل الجانب الجنائي فقط من الأحكام.

وعلى ذلك، فإن دعوى أن الشريعة في المجتمعات الإسلامية معطلة غير صحيح، لأن الشريعة هي الدين والدين لم يتعطل، والمعطل في الحقيقة إنما هو شق من جانب واحد من جوانب الشريعة، وهو الجانب الجنائي، فالعقائد لم تتعطل ولم تستطع الثقافة الغربية ولا الموجة الإلحادية أن تؤثر في القيم الإسلامية، والشعائر لم تتعطل، فالمجتمع لا يزال يصلي ويصوم دون أي اكتراث بالمستبد، ولا تأثر بالمستعمر، ولم تتعطل الأخلاق رغم سعي الحكومات الاستبدادية إلى قتلها في نفوس المسلمين ومحوها من سجلات أعرافهم، فهي لا تزال تحافظ على صدارتها لديهم، قانون الأسرة لم يتعطل وكذلك المواريث وكثير من المعاملات الاقتصادية والتجارية لم تتعطل، فالشريعة لا تزال تطبق وإنما تعلقت النفوس بما عطله الاستعمار الغربي عند احتلاله، وهو الجانب الجنائي من الدين، وبات البحث عن تطبيق هذا الجزء المفقود هو الهدف الذي تدور حوله خطابات التيارات الإسلامية.

فالمجتمعات الإسلامية التي يؤدي أفرادها شعائرهم وعباداتهم متمسكين بعقائدهم متمثلين بأخلاقهم وقيمهم، هي مجتمعات تطبق الشريعة ولو تولى أمرها حاكم مستبد أو مستعمر جائر، وهنا أشير إلى بعض التيارات التي هدمت الأمة والمجتمع، وشردت الملايين وقتلت الآلاف وهدمت الأخلاق، وداست على القيم، وكل ذلك بدعوى تطبيق الشريعة المعطلة؟! وأما الموكل عن الله بتطبيق هذه الشريعة فإنما هم جماعة المسلمين جميعاً، فلم يخص الله أحداً بعينه بهذه المهمة، فالأمة هي وكيلة الله بتطبيق شرعه
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) فالخطاب للجماعة لا لفئة أو جماعة أو تيار، والذي ينوب عن الأمة بتنفيذ أحكام هذه الشريعة إنما هي سلطة الدولة وممثل هذه الدولة إنما هو حاكمها، وحتى يستطيع الحاكم إقامة الشريعة لا بد له من عقد الوكالة من الأمة، ولا تكون الوكالة بالإكراه، فإن عقدت له من جماعة المسلمين بيعة كان العقد عقد وكالة لا عقد تمليك.

الدولة التي تتدخل بالقيم الأخلاقية في المجتمع هي في الحقيقة دولة غير شرعية، تحاول أن تلبس شرعيتها المزيفة رداءً شرعياً توهم الناس من خلاله أنها حامية للدين، وأرى بأن الالتقاء بين الحرية والشريعة إنما هو في تطبيق معادلة الحد الأدنى من التقنين والحد الأعلى من الحرية.

وأما عن حدود الحرية في ظل تطبيق الشريعة ومدى تضييق إحداهما على الأخرى، فإن الشريعة الإسلامية بمعناها الواسع العميق ما كانت ولن تكون مضيقة على حرية أحد من الناس، وهذا الخلاف في الحقيقة لم يظهر إلا عندما تنافس في قيادة المجتمعات كلا التيارين العلماني والسلفي، فالعلمانية ترى أن تطبيق الشريعة يعطل حرية الناس، والسلفية ترى أن في الحرية خطراً على تطبيق الشريعة وسبب الخلاف عائد لانعدام تحرير مفهوم الشريعة فالعلمانيون حولوا الوحي تاريخاً يمكن تجاوزه وألغوا بذلك الأحكام، وصارت الشريعة علاقة روحية بين العبد وربه، وهذا مستحيل عندنا، والسلفية حولت التاريخ وحياً لا يمكن تجاوزه، وألزمونا ما لم يلزم، فالصواب لديهم محصور بفعل السلف فقط، وكل فكرة لم يرد لدى السلف أصل لها، فعرض الحائط أولى بها وهذا تضييق لواسع وهو أيضا مستحيل لدينا.

وأرى بأن تطبيق الشريعة إنما يحتاج إلى مشاركة متوازنة بين الدولة والمجتمع معاً فلكل دوره، وأي تدخل من أحدهما بدور الآخر كفيل بهدم المجتمع والدولة معاً والعامل به كرافع صروح من الماء في الهواء، فتنفيذ الحدود من قبل جماعات داخل الدولة يهدد أمن المجتمع فيها وينشر الجريمة ويشوه صورة الدين تماما كما فعلت وتفعل داعش كل يوم.

وتدخل الدولة بالجانب الأخلاقي من الشريعة لدى الناس يفسد الضمير الخلقي عندهم ويبعث على النفاق والرياء، ذلك أنه يخضع لسلطة الضمير لدى الفرد لا لسلطة الدولة، فالصلاة والصيام والحج وأغلب التشريعات الإسلامية أخلاقية وتدخل الدولة بها تجاوز لحدودها، فالتدين لا يكون خالصاً لله إلا إن كان منقوعاً بالحرية، فذهاب الفرد للمسجد خوفاً من الحسبة يعد نفاقاً لا عبادة لله، فالدولة التي تتدخل بالقيم الأخلاقية في المجتمع هي في الحقيقة دولة غير شرعية، تحاول أن تلبس شرعيتها المزيفة رداءً شرعياً توهم الناس من خلاله أنها حامية للدين، وأرى بأن الالتقاء بين الحرية والشريعة إنما هو في تطبيق معادلة الحد الأدنى من التقنين والحد الأعلى من الحرية، فعلى الدولة رفع كاهلها عن المجتمع ليمارس شعائره بحرية في مقابل التفاتها لجوانب أخرى تخدم الشريعة من خلالها، بالإضافة إلى أن شرعيتها مقدم على تطبيقها للشريعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.