شعار قسم مدونات

المشروع الإجرامي الأكبر

blogs التعليم
لا يغيب عن مخيلي أبدًا -حين أبدأ بالتفكير في مستقبلي كمعلم- وجوهُ الطلاب في فصل التدريب العملي لنا؛ تلك الوجوه التي رسمت باختصار مستقبلي في هذه المهنة، وهو بنسبة كبيرة سيكون تقريبًا لا شيء! فلن أسمح لنفسي أن أُساهم في هذه الجريمة، ولا يجدُر بي وصفها الا بالجريمة الكبرى؛ نتورط فيها نحن المعلمون فنكون مجرمين عُنوةً بلا حيلة ونكون كذلك أحد ضحاياها بلا ريب!، وليت إجرامنا يقتصر على تبديل ثقافةٍ بأخري أو تغييرٍ في حقائق تاريخة ثابتة أو تشويهٍ لمبادئ دينية واجتماعية راسخة، بل إن هناك ما هو أعظم من زرع ثقافةٍ فاسدة قد تُغيٙر يومًا، أو تشويهٍ في الدين والعادات قد لا يُخالط القلوبٙ فيمكن صده، بل إنّنا نُعِد معًا مشروعًا إجراميًا أكبرٙ قد يفي بكل متطلبات الإفساد التي قد يحلم بها طاغيةٌ في إفساد أمةٍ بكاملها وذلك على مرأى ومسمع الأشهاد ودون أن تسمع أو يجوز لأحدٍ أن يقولٙ كلمة اعتراض واحدة .

جريمةٌ تلبس حُلة النظام التعليمي والبرامج التربوية الرسمية بدايةً من مدخلاتها المادية والبشرية المتمثلة في ضعف إعداد المعلمين وما يسمي بـ "الكوسة" في تعيين الإداريين وتوزيع الطلاب على المدارس والفصول، مرورًا بالعمليات التربوية التي لا رقيب عليها وكذلك وسائل التقويم النمطية التي يتساوى فيها الطفل النابغ مع آخر لا يُجيد إلا النقل من ورقةٍ لأخرى!، وصولًا إلى مخرجٍ تعليمي لا يرقى بعقله للحياة الآدمية الطبيعية ولا يناسب أيًا من احتياجات سوق العمل، اللهم إلا أعمال العصابات أو المتسولين!

للأسف الذنب لا يقع على الطالب المسكين بل هو الضحية الأولى، ولا يقع كذلك على المعلم الساعي على لقمة عيشه، فالمعلمُ تُفرض عليه مناهجُ لا تناسب أعمارٙ الطلاب، وأساليبُ تدريسٍ عقيمة، وإمكاناتٌ ووسائلُ تعليمٍ لا ترقى لوصفها محدودة بل قُل معدومة!

فكرة المشروع قد تضح لك من قصتي القصيرة في أول دخولٍ عمليٍ لي في فصلٍ دراسيّ؛ حين كتبت على السبورة سؤالاً رياضيًا بسيطًا ورأسه بلغة عربية سهلة جدًا لطالبٍ في الصف الخامس الابتدائي، ثم طلبتُ عشوائيًا من أحد الطلاب الإجابة، ففوجئت برده دون تردد: "معرفش"، فقلت: "حاول يا حبيبي وفكر" قال بلهجة (قرف): "أنا مبعرفش أقرأ أصلًا يا مستر"، قلتُ مستنكرا: "إزاي!! إنت في سنة خامسة!!"، فصمت الصبي وجلس دون إذنٍ وقال "يا ريت يا مستر متقومنيش تاني بقى عشان متزعلش نفسك".

ما نزل عليّٙ كالصاعقة هو أُسلوبه مع المعلم وتهديده لي بعدها إن حاولت ضربه سيُخبر أبيه ليشكوني فأخاف منه خوفًا على لقمة عيشي على حد تفكيره! وما صدمني أكثر أن الأمر لم يُدهش أحدًا من المعلمين حين أخبرتهم بما جرى وقولهم "أغلب العيال كدة دلوقتي"! للأسف الذنب لا يقع على الطالب المسكين بل هو الضحية الأولى، ولا يقع كذلك على المعلم الساعي على لقمة عيشه، فالمعلمُ تُفرض عليه مناهجُ لا تناسب أعمارٙ الطلاب، وأساليبُ تدريسٍ عقيمة، وإمكاناتٌ ووسائلُ تعليمٍ لا ترقى لوصفها محدودة بل قُل معدومة! ووقتُ الحصة بالكاد يتسع لتحية التلاميذ وتنظيمهم! فمن أين للمعلم أن يهتم بمن أمامه وهو مطالبٌ بأن يُثبت ما في دفتر التحضير على السبورة، وسط صياحهم ولعبهم دون احترامٍ لوجوده! وإن لم يفعل فهو مهدد في أي لحظة من الثلاثين دقيقة المخصصة لشرح درسٍ كامل أن يقتحم فصله فوجٌ من الإدارة لا يهتم إلا بما هو مُثبتٌ على السبورة أو قد يفاجئه كذلك موجه المادة الذي لا يهتم إلا بما كتبه في دفتر التحضير!

نحن نٙعمٙدُ في مشروعنا إلى أسلوبِ تعليمٍ لا يرقى إلى النمطي أصلًا ليخرج من بين أيدينا أجيالٌ مشوهةٌ تمامًا بلا هوية لا تعرف لها تاريخًا وذات مستقبل معتم، وبذلك نكتب النور لمشروعنا الإجرامي الكبير؛ قنبلةٌ موقوتةٌ ستنفجر حتمًا في أي لحظة!

طلاب المدارس الحكومية فريستنا الأولى؛ لم لا؟ والمدارس نفسها بإدارتها المتسيبة وبإمكاناتها ووسائلها المعدومة ومعلميها وأولياء أمور طلابها جميعهم شريكون معنا في مشروعنا الذي يتزعمه بلا منازع أصحاب القرار في بلادنا؛ سُلطاتٌ تنفيذية تُنفذ فقط ما يجلب لأصحابها قدرًا من الأموال يسد جشع بطونهم!، وأخرى تشريعية تُشرِّع ما يحلل لها أموال الشعب، ويرون في مشروعنا الضامن الأمثل لإخراس صوت الشعب الى أجلٍ غير مسمى!

قُنبلتنا قد أُشعل فتيلُها بالفعل وما هي إلا أعوامٌ قلائل وتنفجر، فلا تأمل بعدها في ثورةٍ أو صحوة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.