شعار قسم مدونات

أهل الفرات غرقى أوجاعهم

مدونات - سوريا

هب الفرات الحياة لضفتيه المتكئتين على رمال وأطيان الصحراء؛ ليشهد على تصاعدية التطور الحضاري والثقافي لمجتمعات عايشت تأرجح الحركية التاريخية تارة في سلم واستقرار، وتارة أخرى في حروب وكوارث لونت مياهه وخضبتها بالدماء. ليقف هذه المرة شاهداً على أكثر فتراته سوداوية إذ يسطر تلك الحيرة وذاك الوجوم المرسومين على جباه أبنائه وهم معتكفون في دوامات التخبط واجترار التفكير في سبيل الخلاص الذي مازال يبدو بالنسبة لهم غامض لدرجة الإرغام أن يقبلوا بمليشيات إيران المستبيحة -بعقائد دينية- لدمائهم والمنتهكة لحرماتهم أو انتظار كتائب الكرد التي تنتوي اجتزاء أرضهم التي كانت ولازالت صلب العروبة وتغريبها في مشروع يسمى كردستان سورية أي اقتيادهم في سبي قومي وديني ربما يعايشونه لعديد السنين.

لم يكتف الموت بعد من أجسادهم ولا آلة الحرب شبعت من زهق أرواحهم و ما انفكت سكاكين التطرف الأعمى تشحذ أعناقهم تحت ادعاءات لا تخضع للمنطق أو القبول العقلي والفكري، إنه العجز الموروث من كتائب مسلحة انبعثت من عقود الظلم وشقت طريقها إلى محاربة الطغاة وقهر جيوشهم التي فرت أمام إيمان الشعوب بالحياة وأحقيتها في العيش تحت ظلال الحرية والكرامة، كان المشهد ورديا عندما انطلقت الجماهير في سلوك مناحي الحياة لتكتشف تلك الحقوق التي طمسها التاريخ وغيبتها القيود الاستبدادية وكأنها تتنفس الأوكسجين لأول مرة، وأكاد أجزم تماما أن نقطة الانعراج أو التحول من وردية المشهد إلى سوداويته هي انسلاخ الكتائب المسلحة عن أهداف الثورة والتنصل يوما بعد يوم من شعارات التظاهر التي كتبتها أصابع الجماهير وأملتها عقولهم وأشواقهم المتلهفة للحرية والعدالة الاجتماعية والعيش بكرامة لطالما هدرت على أيادي عصابة الأسد وأذنابها.

لطالما كانت لحظات الوداع لمقاعدهم الخشبية هي ذاتها لحظات لقاء مع براميل الموت المتفجرة لتنثر أشلاءهم في الزوايا وتسيل دماؤهم البريئة على قطع الركام المهدمة، صدمة زمنية ترعد وتبرق في أذهانهم.

ولا يجهل علينا تلك الأيدولوجيات الغريبة على أفكار وتطلعات أهلنا في جزيرة الشرق السورية التي وجدت بيئة خصبة للانتعاش في ظل إصرار عصابة النظام على إعادة الجماهير إلى أنيار العبودية، واحتياج الكتائب المسلحة للدعم المالي والعسكري من أجل البقاء ادى الى تحول الكتائب من صف واحداً اقسم على نفسه محاربة الظلم والوصول بالجماهير إلى موانئ الأمن والاستقرار إلى أشبه بمستعمرة سمكية يقتات كبيرها على صغيرها مما سمح للفوضى أن تستشري في المحيط وتتنافس الكتائب فيما بينها لفرض أجندتها على البقية والسيطرة الكاملة مما أوقف الحركية المتصاعدة في الانعتاق وتحرير الأرض إلى الجمود بل التباطؤ في دك حصون الأسد المتهالكة وإيكال الأعمال القتالية من فصيل إلى فصيل آخر..

والحجة المصوغة لهذا الإيكال عدم التطابق لرؤية مدنية الدولة وأسلوب الحكم بل التكفير كان سيدا للنقاشات التي دارت حول هذه الموضوع الذي كان سابقاً لأوانه ولكنه فرض في تلك المرحلة من أجل استقطاب المقاتلين للكتائب المدعومة بتلك الأموال المؤدلجة بفتاوى دينية عبثية مستغلة جهل الناس وحاجتها في ظل ازدياد أعباء الحياة او التشوف إلى السلطة فدائما ماكنت الكتائب المتحزبة لشيخها تغفل العين عن عنصرها المتمادي في ممارسة السلطة.

فالخطر لم يكن في ذلك الوقت كبيرا من قوات النظام لانشغالها في معارك الداخل السوري الممتدة منن حلب شمالا حتى درعا جنوبا ولكنه جاء من تنظيم الدولة الاسلامية الذي استطاع استمالت بعض الفصائل إلى جانبه وهذه الفصائل كانت على عداء مع فصائل أخرى وتتشوق إلى الانتقام منها فسقوط المنطقة الشرقية من سورية بأيدي قلة من مقاتلين يدعون إنهم جاؤوا لإقامة دولة الإسلام كان أشبه بالتسليم وذلك يعود إلى التناحر والاقتتال بين الكتائب المسلحة والأيدلوجية المتطابقة بين معظم الفصائل التي تأسلمت فكريا بتلك الأموال المشروطة التي كانت تتدفق من مرجعيات دينية متكهفة في عقدة التاريخ والاستعلاء على الدهماء التي تستجدي المنقذ الذي سيأخذ بأيديها إلى طريق الهدى والنجاة وأيدلوجية التنظيم بل كان المبرر للانهزام أمام هذه العناصر المعدودة، (إخواننا بغوا علينا) هذه العبارة التي تغنت بها جبهة النصرة للانسحاب الدرامي أمام مقاتلي التنظيم الذين كانوا لا يتجاوزون المئات .

لن أتعمق كثيراً أو أذهب إلى البيان في تنظيم الدولة أو المحاولة في اكتشاف الحقيقة التي تختبئ خلف أجندتها ولكن ما يهمني النتيجة التي تركتها خلفها في تلك المنطقة التي يبدو أنه كانت مؤتمنة عليها حتى تستطيع القوى المؤتمرة على تطلعات الشعوب من التقاط أنفاسها وتجميع قواها، فالأحداث تقاس بنتائجها في النهاية، النتائج التي أجرمت ولازالت تفتك وتحفر جراحا غميسة في جسد أهل الفرات، فالضحايا الموتى والثكالى واليتامى أو الدمار الشامل للمدن والقرى أو انعدام الحياة وأنماطها هناك ليست الجريمة الوحيدة بل الأكثر إجراما ذلك الجيل الطفولي الذي أُرغم كارها على لبس عباءة الجهل ذلك الجيل الذي ظل أسيرا لإصراره على استمرارية التعلم متجاهلا لون الدماء التي لونت بياض دفاترتهم وخربشة ذاكرتهم الطفولية.

الكل يمتهن الموت والقتل ويمارسه ببشاعة تنحدر في دهليز الذاكرة الأعمق والكل يسرف بالتدمير والتهجير ليحصل على مكتسبات يراها استراتيجية تخدم مشروعه الكالونيالي الذي سوغت وجوديته وأعطت شرعيته محاربة الإرهاب.

فلطالما كانت لحظات الوداع لمقاعدهم الخشبية هي ذاتها لحظات لقاء مع براميل الموت المتفجرة لتنثر أشلاءهم في الزوايا وتسيل دماؤهم البريئة على قطع الركام المهدمة، صدمة زمنية ترعد وتبرق في أذهانهم وهم يتلمسون ما تبقى من جدران مدارسهم وأبوابها التي باتت موصودة أمامهم لتقف حاجزا بينهم وبين ذكريات كانت لهم حين من الدهر. تتوالى الجرائم تحت المسميات المتدرجة من القومية على امتداد الطاغوت الأسدي فالوطنية فالإسلامية، واليوم تتربص بأهل الفرات فلولا متعطشة للدماء ومتشوقة للانتقام من الفراتي الذي أراد الحياة ورفض الظلم والبغي جاؤوا ليسرقوا ما انطوت عليه أرض الفرات من ثروات وما تنبته على ظهرها من خيرات، جاؤوا بالموت الذي يشرئب بعنقه من جوانب الأرض ومن أعالي السماء ويبررونه ثمنا للخلاص من الإرهاب.

الإرهاب الذي يترك حلقة مفرغة عصية على الفهم أو الإدراك عندما يحاول الناس استيعاب قدوم التنظيم الفجائي وسرعته في السيطرة على مساحة واسعة في عمق الشرق العربي وكذلك سقوطه المتسارع أمام الآلات الدمار والقتل التي تبنت في استراتيجياتها العسكرية هدم قلاع السنة وتهجيرها والحجة دائما تصاغ في الخلاص من التطرف ونشر الاعتدال. التطرف الذي غذاه و جعل منه فيروسا سريع الانتشار .

والظلم الواقع على أهل السنة مارسته أنظمة ثبتتها في الحكم نفس القوى التي هبت اليوم لمحاربة الإرهاب (السني) والجهل بكافة أشكاله نتيجة غياب التنمية وانعدام المرافق التعليمية القادرة على تكوين أجيال قادرة على حمل هموم أوطانها. الكل يمتهن الموت والقتل ويمارسه ببشاعة تنحدر في دهليز الذاكرة الأعمق، والكل يسرف بالتدمير والتهجير ليحصل على مكتسبات يراها استراتيجية تخدم مشروعه الكالونيالي الذي سوغت وجوديته وأعطت شرعيته محاربة الإرهاب الغريب أصلا بأفكاره السوداوية وأفعاله القذرة على تاريخ وطبيعة هذه المنطقة.

كل هذه الجرائم المبررة في قانون الدولي ترتكب على حساب أجساد ودماء وتطلعات أبناء الفرات الذي لم يعد أمامه إلا البكاء لغسل الآلم والمآسي التي سترتبط بذاكرته إلى بعيد من الزمن القادم، أما التفكير في المستقبل لم يعد يجدي بل أصبح محاط بالمبهم ما يجب أن يشغلنا الآن كيف نخرج بأقل الخسائر على الأقل وذلك ان يعود ابناء المنطقة الشرقية إليها ليحفظوا ما تبقى من رمق لم يلفظ نفسه الأخير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.