شعار قسم مدونات

سجن "الأنفولو"

مدونات - فيسبوك
ربما يكون السجن أحد أشد الاختراعات البشرية رعباً، وفي داخله من القصص والحكايات ما يظهر ما يمكن للإنسان أن يفعله بأخيه الإنسان، وكم من الممكن أن تتحول الشخصية الطيبة الرائعة إلى شخصية سايكوباتية بلمح البصر. لكن كل من يكتب عن السجن وكل من يتحدث عنه وكل من يدخل إليه أو يخرج منه متفقون أن أكثر ما يخيف في السجن هو العزلة، حتى إن العقوبة الكبرى داخل السجون هي السجن الانفرادي؛ أي: العزلة الكاملة .

المخيف في العزلة أنها لا تبقي لك إلا بنات أفكارك، وبنات الأفكار تحتاج دائماً إلى من تتزوجه لتنجب أفكاراً جديدة، فإذن لم تتزوج بنات الأفكار كبرت وشاخت أو أنجبت سفاحاً، ولذلك تجد المعزول إذ خرج يطلب أول ما يطلبه ما حدث وهو غائب، لأن بناته يستجدين العرسان .

العزلة حالة يقصدها المفكرون أحياناً ليقوموا بتصفية أذهانهم من الكثير ويركزوا على القليل علهم بذلك يريحون عقولهم من زخم الأفكار الذي ينهك أي دماغ، لكن تلك العزلة ليست عندهم حالة عامة، إنما هي فترات استراحة واستجمام يعودون بعدها إلى مجتمعاتهم التي ولدتهم وولّدت لهم أفكارهم، أما من يبقى في عزلة فيصفه الناقدون بأنه في برج عاجي أو غارق في كهف لا يخرج منه .

اليوم أترك في صفحتي عدداً لا بأس به من كل تيار، صحيح أن بعضهم يسبب لي الكآبة أو الصداع أو الأرق -كما أسبب لبعضهم ذات المشاعر-، لكنهم يهبون لي عيناً أخرى أرى بها المجتمع.

عوالم التواصل الاجتماعي خلقت فضاءً خصباً لتلاقح الأفكار وتجاذبها وتصارعها، لكنها منحت مع هذه الفرصة أدوات لفض الاشتباك أو تخفيفه، فتركت لك الخيار المتابعة أو إلغاءها، الصداقة أو عدمها، الرؤية أو الحظر، حتى تتحكم بكمية ونوعية المعلومات والأفكار التي يتلقاها حسابك ولا يصيبك الملل أو الإحباط من شبكة التواصل تلك فتتركها لغيرها .

مذ أتاح فيسبوك ميزة إلغاء المتابعة (Unfollow) منح المشتركين فيه خياراً لطيفاً؛ فهو يمنحك فرصة الإبقاء على الصداقة مع عدم رؤية ما يكتبه الشخص على صفحتك، وهذا يجعل الجميع سعداء: فلا صديقك يلومك على إلغاء الصداقة ولا أنت مضطر للمعاناة كل مرة تقرأ فيها ما يكتبه. كنت مدمناً على هذا الخيار فترة لا بأس بها، ألغي متابعة كل شخص لا تعجبني أفكاره، صوره، أراءه السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، معللاً ذلك براحة النفسية وتخفيف المشاكل وعدم الفائدة، ولا أتابع إلا من هو من لوني وفكري (اقترب أو ابتعد). هذا جعلني أرى شبكات التواصل بطريقة مختلفة، مريحة ومناسبة لقضاء وقت الاستجمام والراحة بعيداً عن العالم المتوحش المليء بالمخالفين.

بعد فترة اندلع نقاش حاد على وسائل التواصل حول حادثة معينة، كنت أسمع وأدلي برأيي إلا أنني لم أكن أرى على وسائل التواصل أي مخالف، لا من المعلقين ولا من الكاتبين، كنت أرى ذات الكلام لكنه بصيغ مختلفة، فأحدهم يكتب والثاني يرسم كاريكاتيراً والثالث يغني، لكنهم جميعاً يقولون نفس الكلام الذي أتبناه وأحبه، " المجتمع بخير " قلت لنفسي، "المجتمع متفق على هذا الفكرة ".

لم أدرك أنني خلال السنوات السابقة كنت أقوم بـ"تصفية " كل رأي مخالف بطريقة دبلوماسية، حتى غدا المتكلمون الذين يظهرون لي على وسائل التواصل نسخاً مني، نسخاً أفضل أحياناً أسوء أحياناً، لكنها نسخ؛ تحمل نفس الأفكار ونفس المنهجيات في الاستنتاج (أو النقل) مما جعلني في سجن من أفكاري وأخواتها، يطمن بعضنا بعضاً أن المجتمع بخير وعافية، متفق مع ما نقول إلا شرذمة قليلة ليس لهم صوت أو حس أو متابعون .لقد عزلت نفسي بإرادتي، وصنعت برجاً عاجياً لا يتخطاه من لا يتفق معي، وصرت أرى المجتمع بعين واحدة لا تقبل إلا البياض أو السواد، واكتشفت أن الكل يفعل هذا، فاليسار مع اليسار، واليمين مع اليمين، والإسلامي مع الإسلامي، والقومي مع القومي، وكل واحد منهم يرى المجتمع نسخاً منه، متفقين على ما يقول مؤيدين ومطبلين .

اليوم أترك في صفحتي عدداً لا بأس به من كل تيار، صحيح أن بعضهم يسبب لي الكآبة أو الصداع أو الأرق -كما أسبب لبعضهم ذات المشاعر-، لكنهم يهبون لي عيناً أخرى أرى بها المجتمع، وجهة نظر أخرى، فكرة أخرى، مواضيع أخرى، اهتمامات اخرى، يهبون لي عالماً حقيقاً بعيداً عن سجن مليء بالمثاليات الزائفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.