شعار قسم مدونات

تحقيق الذات: كُنْ الأوّل!

blogs الأول

لعلّ ما يُثيرنا ويُهيّج مشاعرنا ويُحرّك الطاقة الكامنة في دواخلنا سؤال من أنت؟! ماذا حققت لذاتك؟! ما هي طموحاتك وأهدافك؟! ما هي خطتك الاستراتيجية وأين ترى نفسك بعد 5 سنين مثلا؟! لنتفاجأ ونُفاجئ من حولنا بأننا في غالب الأحوال لا نستطيع الإجابة عن تلك الأسئلة وغيرها! أو لنقل على الأقل لا نستطيع الإجابة الآنيّة الفوريّة، ويكأن خلجاتنا التي نتخاطب بها مع أنفسنا في التخطيط لرؤيتنا المستقبلية صمت وبكمت!

دعونا نعاود الأدراج رويداً رويداً، ونجلس جلسة أُنس في ديار مُخيّلتنا الفسيحة ونسبح في فضاء الذات، كلّ ما تحتاجه إرادة وحكمة وسعة صدر وصبر ونية صادقة على الاستمرار والتنفيذ، ومعرفة مغزى ما نسمو ونتطلّع إليه وهو توكيد النفس والذات، وفي خضمّ ذلك لا بد من تعريف تحقيق الذات: فهو كل ما يستطيع الإنسان أن يكون عليه بتوظيف قدراته وإمكاناته وترجمتها إلى واقع يُحب أن يعيشه ويبعث في نفسه السعادة والراحة، ولا بد من التنويه أن تحقيق الذات يكون مبتعثا من تقديرها والتعرف المعمق على مكنوناتها لترجمة ذلك واقعاً ملموساً يُفيد الفرد والمجتمع.

قد يقتحم خلوتك المثبطون، وقد يدق بابك ناقوس المحبطون، وقد يوهن من عزيمتك الكثيرون، قف شامخا وتحدى! وتذكر أنك تستطيع! أمامك الكثير لتحقيقه والميدان أمامك ويحتاج همة كأنت!

إذن اتفقنا على هدفنا من هذه الخلوة وتعمقنا بما ترنو النفس إليه.. خُذ نفساً عميقاً، وهاتِ بقلم وورقة وخُطّ عليها ما يدور في مخيّلتك؟! ما تحتاجه؟! مواهبك وتطلّعاتك؟! نقاط القوة والضعف لديك؟! ولنتبع في ذلك أساس التخطيط الاستراتيجي وما يعرف بدورة ديمنغ PDCA (خطط، نفذ، حلل، اتخذ الإجراءات).. دوّن كلّ شيء، لا تتغافل عن أي شيء يطرأ في بالك ويدّق عليك بابك.. وتذكر دائما أنّ لك شيئا في هذا العالم فقم، ولا تركن إلى المتقاعسين! أنت تستطيع! ولكنّك بحاجة إلى همة تُحيي فيك أمل الوجود والتحقيق، إذ إنّ الهمة لا تنشأ من العدم ولا بد من حوافز ودوافع توجهها وتشد من أزرها وتروّضها على ذلك لتحقق الإنجازات وترفع قدره وشأنه..

وجنباً إلى جنب؛ قد يقتحم خلوتك المثبطون، وقد يدق بابك ناقوس المحبطون، وقد يوهن من عزيمتك الكثيرون، قف شامخا وتحدى! وتذكر أنك تستطيع! أمامك الكثير لتحقيقه والميدان أمامك ويحتاج همة كأنت! ازرع في نفسك الثبات والتحدي، أصر على مواقفك فأنت لها، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم!

وتعمقا في ذلك؛ يؤوّل الكثيرون مقولة "رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه" تأويلاً تثبيطيّاً، ويأخذونها على محمل العجز وقلة الحيلة ويُتبعون تفسيرهم بآية "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"، أي هُراءٍ هذا؟! وأي تحطيمٍ للنفس والذات؟!ما أدراك ما هو قدر نفسك وما هي سعتها؟! لماذا دائما نحاول تفسير الأقوال وتأويلها بما يحث النفس على السكون والراحة! لماذا لا نُفسّرها على الوجه المشرق لها! لماذا لا نقول رحم الله امرءاً عرف هدفه وسعى لتحقيقه فناله؟! ولماذا لا نفسر سعة أنفسنا بتلك الطموحات الكبيرة التي سنعمل جاهدين على إنجازها وبعون الله وبثقتنا بأنفسنا وتفاؤلنا وعملنا المدروس أنجزناها وأضحت واقعاً جميلا يُعجب المُفائلين ليغيظ بهم المُشائمين!

ولنا في معلّم البشرية – صلى الله عليه وسلم- خير أسوة ودليل، ففي واقعة رفع الحجر الأسود تنازعت القبائل، وكاد الدم يسيل، أَوَقِف عاجزاَ مكتوف الأيدي؟ أم ترقرقت عيناه دمعاً من هول ما يرى؟! حاشا لنبي مثله إلا أن يكون صاحب الحكمة البليغة والعقل الراجح، فقال مخاطبا: "هلمّ إليَّ ثوبا"، فأتوه به فوضع الحجر في وسطه ثم قال: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا". ففعلوا؛ فحقن دماءً وأوقف حروباً ونال شرفاً وتمكيناً، وكان الأول في تثبيت نفسه والوقوف في وجه الباطل!

قبل أن تستسلم اسأل نفسك إن كنت حقاً قدمت أفضل ما لديك أم أن في جعبتك المزيد. ولتعرف قدرة نفسك وسعتها عن كثب

وهذا سيدنا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في أحداث الردة وقف وقفة عز وشموخ وحمل على كاهله مسؤولية لم تحملها السماوات ولا الأرض، فصدح بأعلى صوته "إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقُص وأنا حيّ؟!" المواقف تريد رجالا تعتكز عليها وتثبتها في عجزها، فكان رضي الله عنه رجل الموقف شديد المضاء قوي العزيمة واضح الرؤية، وكان الأول في التحدي والذود عن حياض الدين.

وليس بعيدا عن واقعنا الذي نحياه دور رجال الرجال الذي ثبتوا وأعزوا الدين وأعادوا له حيويته وعزته، فلن ننسى الإمام حسن البنا الذي استأنف تأسيس حركة قوية عملاقة تنتشر في شتى البقاع كحركة الإخوان المسلمين وأخذ على عاتقه تحمّل ذلك حيال ما لاقاه من هدم الخلافة الاسلامية. ولن تغيب عن أذهاننا صورة الشيخ القعيد أحمد ياسين الذي بهمته ومن على كرسيه أحيا أمة وزلزل أركان العدو وهزمهم، فكانوا الأوائل في التأسيس والتثبيت والتحقيق.

وقبل أن تستسلم اسأل نفسك إن كنت حقاً قدمت أفضل ما لديك أم أن في جعبتك المزيد. ولتعرف قدرة نفسك وسعتها عن كثب، فتمعّن الإعجاز في قوله تعالى: "سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" والفرق بينه وبين قوله تعالى: "وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ".

عليك نفسك، الزمها وروّضها على الاستزادة والاستكثار وعدم الركون، ودعك والمثبطين، فسّر الأشياء من حولك واجعلها دافعاً لطاقاتك لا خامداً لها! كن الأول بالتحدي، الأول بالإنجاز

ريثما نتمحص الآيات، دعنا نتفق بدايةً أن الإنسان نقطة متحرّكة تدور في فلك ثابت حول آمالها وأمنياتها متطلعة إلى الأسمى، ولا شكّ في حقيقة أن الإنسان مرتبط بالزمن، وكلما مضى الزمن فات الإنسان الكثير، إما زمناً يُوَلوِل على ضياعه، أو يفخر بتحقيق إنجاز فيه. وكذلك ندرك علميا أن السرعة تقاس بالمسافة على الزمن، فكلما قطع الإنسان مسافة كبيرة في زمن أقل كان فائزاً، وقياساً، كلما حقق إنجازاتٍ وأحرز أهدافاً أكثر وأهم كان مُنجِزاً وعظيماً، وكان الأول.

وعودة إلى الآيات فنلاحظ أولاً الفرق في الخطاب بين المتقين بكلمة " سارعوا" لأنهم في الأصل هم في تنافس وسباق دائمين، فلفظة سارعوا تحثهم على الاستزادة والتعمّق لنيل الأحسن والأفضل، بينما خاطب المؤمنين بكلمة " سابقوا" ليحثهم على السباق الذي لم يصلوه بعد، ثم وإن حدث وسابقوا فحتما سيشملهم الخطاب الداعي إلى الإسراع.

وختاماً، عليك نفسك، الزمها وروّضها على الاستزادة والاستكثار وعدم الركون، ودعك والمثبطين، فسّر الأشياء من حولك واجعلها دافعاً لطاقاتك لا خامداً لها! كن الأول بالتحدي، الأول بالإنجاز، الأول في تقدير ذاتك ومن ثم تحقيقها، فلن يصل إلا الأول! ولنن يترك بصمة إلا الأول، ولن يزرع أثرا إلا الأول، الحظ الوفير للأول، والصيت العالي للأول، فكن الأول!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.