شعار قسم مدونات

الدين والعبادة.. بين الإيمان والعادة

blogs صلاة

يَقوم الدّين -الإسلام على وجه التَّحقِيقِ- على فعل عقلانيّ روحانيّ جَسدانيّ هو نتيجة اقتناع واعتراف فإيمان وخضوع. فِعلٌ يَتَجلَّى بالإكرام والاحترام والتعظيم. تُتَرجِمه العبادة للبلوغ بالمؤمن إلى لقاءٍ جوّانيّ حميم بين المعبود وعابده إلى حَدِّ انشغال هذا الأخير بخالقه والشغف به. ويُضحي كُلّ هذا شيئاً فشيئاً إرثاً ذا ثِقل يُستَطاب حمله والحفاظ عليه بأمانة وممارسته بفخر من جيل إلى جيل. فيُضحي عادة تَتَغلغل في حياة كُلّ مولود وعَقَبٍ جديد ويَستقرّ فيه إلى كُلّ ما يَتلقّاه من شعبه أو جَماعته.

في عصرنا الحديث والآنِيّ ظَلّ الدّين مُحافظاً على قَدَسته -تقريباً- كأيّ وقت مضى ووَلَّى. فمنذ اللّحظات الأولى للتنشئة الاجتماعية يَتَلقّى الأولاد والأحفاد مجموعة من المعايير تَدلّهم على الصواب وتَنهاهم عن المنكَر في البيت أوّلاً ثم في المدرسة فالمجتمع. فكلّ سليل إذا صَبِيَ يُسرِع أهله في اصطحابه إلى الكُتّاب وحلقات الشيوخ لحفظ القرآن الكريم وتَجويده. ويَحرِصون كذلك على ارتياده المسجد للصلاة. وهذا ومِمّا لا مِريَةَ فيه أمرٌ مُستحسَن.

إنّنا نفهم الدّين على أنّه عملية استرضاء وطلب عون قوًى أعلى من الإنسان يعتقد أنّها تتحكّم في الطبيعة والحياة الإنسانية. وهذه العملية تنطوي على عنصرين واحد نَظَري والآخر تطبيقي عملي. فهناك أوَّلاً الاعتقاد بقوىً عُليَا تتلوه محاولات لاسترضاء هذه القوى. ولا يَصِحُّ -أيْ الدّين- بغير تَوَفُّرِ هذَيْن العنصرين.

وقد يَنظُر النّاظر إلى كُلّ هذا نَظرة ذي عَلَق. غافل على أنّ في هذا ما يُثير القلق. وما هو مَدعاة للقلق والخشية هو أنّنا أصبحنا نَرى الأبناء والأحفاد يُلقَّنون تلك المعايير التي ترشدهم إلى الصواب وتنهاهم عن كُلِّ وِزْرٍ ونُكْرٍ في شكل قوالب جاهزة وجافّة ومُجَرَّدة. باختصار نَرى الآباء والأجداد يُلقِّنون أبناءهم القرآن الكريم بغير تدَبُّر معانيه ودلالاته ولا حَثّهم على العمل في دنياهم بآياته. يَتَعلّمون إقامة الصلاة في المواقيت ولكن لا يَتعلّمون الخشوع. قُل بالكاد يَعرفون ما هو الخشوع. وذلك راجع إلى التَّلقين التقليدي الذي يُلقَّن به الدّين.

لهذا تَرَى كَم من شخصٍ يَدّعي التديُّنَ وهو عَتِلٌ في دنياه. وكم من شخص يزعم الانتساب إلى دين الله ورسوله وهو غليظ عَتِلٌّ مع مَنْ في الدّين أخاه. وكم من امرئ تراه يَرتاد الجوامع إذا ما رُفِعَ الآذان في الصّوامع، يَبدو لك عِطْرِيفاً عَفِيفاً وإذا خالطته وعاشرته فإنّكَ لَوَاجِدٌ إيّاهُ خبيثاً عِترِيفاً. ومُتَمَشّخٌ يبدو لك لَبِيباً صاحب رأي وسُمعَة. وما هو إلاَّ بإِمَعَة. وكم مِن مُتَدَيّنٍ يبدو لك لُوذَعِيّاً مُحسِنَ الظَنّ. وما هو إلاّ بمِعَنّ. ولقد صدق الإمام أبو عبد الله الحسين -رحمه الله- حين قال وأحسَنَ: "إِنَّمَا الدّينُ لَعَقٌ على أَلسِنَةِ النّاس يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّت مَعَايِشُهُمْ فإذا مُحِّصُوا بالبَلاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ."

لم يَكن الدين في يوم من الأيّام سِوَى صلاة وصوم وزكاة وحَجّ. أو حَفُِّشاربٍ وإعفاءُ لحية. كما قال المتنبي في بيته الشهير: أَغَايَةُ الدِّينِ أَنْ تَحُفُّوا شَوَارِبَكُم *** يَا أُمَّةً ضَحِكَت مِنْ جَهْلِهَا الأُمَمُ

إنّما الدّين اقتناع وقَبُول وتَصديق من العقل. ثُمَّ إيمان وتَقوى في الصدر. ثم صدق في القول وطهارة في القلب وحسن نية ووفاء وولاء وإخلاص في العمل. إنّي أُقِرّ لكم أن جُلَّ مَن يَرتادون المساجد من صغار وشباب خاصة لا تجد في صدورهم من الإيمان قدر أُنمُلة. فعلامَ يُصلّي؟ يجيبك أن تردّده على المسجد للصلاة ما هو إلاّ محض عادة اعتادها يومَ كان صغيراً ورُبَّى عليها. ولربّما في أحايين نادرة بغرض تحقيق الاندماج الاجتماعي وهذا طبيعيٌّ جدّاً في ظِلّ التأثيرات الاجتماعية المِعياريّة.

ولهذا يَعيش البعض في حالة من المسخوطيّة وثِقَل النّفس والتهجّم. فيقولون: "يا رَبّنا ها نحن نصلّي ونصوم ونَزَّكّي ونحجّ ونعتمر ونحفظ كتابك ونختمه فما حال قلوبنا وكأنّ هِيَ يَكسوها الرّان؟ وما عِلّة صدورنا التي تَضيق أكثر بِتَوالي الأيّام؟ وما شأن نفوسنا التي حتّى في الصلاة إليك لا تعرف خشوعاً؟" إنّ سبب كُلِّ ذلك غياب الإيمان وافتقارهم إيّاه.

الإسلام كدين في عصرنا هذا باتَ ممارسة مجردة من أيّ حس روحانيّ وقِيمِيٍّ. بل في عٌرف البعض أنّ إعفاء اللّحية وإقامة الصلاة وأداء الزكاة هو ذاك الإيمان. وبسبب هذه الثقافة إذا سَمِعَ شبابكم بعض الأفكار كالدّاروينية واطّلعوا على الفلسفة الماديّة فسرعان ما ينحرفون عن جادّة الصواب.

يقول جيمس فريزر: "إنّنا نفهم الدّين على أنّه عملية استرضاء وطلب عون قوًى أعلى من الإنسان يعتقد أنّها تتحكّم في الطبيعة والحياة الإنسانية. وهذه العملية تنطوي على عنصرين واحد نَظَري والآخر تطبيقي عملي. فهناك أوَّلاً الاعتقاد بقوىً عُليَا تتلوه محاولات لاسترضاء هذه القوى. ولا يَصِحُّ -أيْ الدّين- بغير تَوَفُّرِ هذَيْن العنصرين. ذلك أَنَّ الاعتقاد الذي لا تَتلوه مُمَارَسة هو مجرد لاهوت فكري. أمّا المُمَارسة المجردة من إيّ اعتقاد (أيْ إيمان) فليست من الدّين في شيء.

إنّ "الله" لا يمكن أن يكون كلمة على اللّسان. "الله" لا بُدَّ أن يكون قوّة تُرغَبُ وتُهابُ وتُشكَر. وهذا هو الإيمان الذي لَمْ يُعَلَّمْ في البُيُوت ولا في حلقات الشيوخ. فإذا بَثَثْتَ هذه القِيَم في الأبناء فطبيعيّ جدّاً أن يُصَلّوا ويُلَبُوا سائر الفرائض تلقائيّاً من دون أن تُجهد نفسك في عرض وسرد ما سيُلاقونه من عذاب إذا أبَوْا أن يفعلوا ذلك والنّعيم الذي سيُعدُّ لهم إذا فعلوا ذلك. قلتُ: سيقومون بذلك "تلقائيّاً" لأنّهم سيُحِسّون بضرورة ذلك بل "سيُدرِكونَ" ضرورته. إنّ ما نراه عند بعض المسلمين -إن لم يكونوا الأغلب- هو ليس إيماناً عن اقتناع وإنّما تسليم. وليس تَسليماً عن اقتناع -على الأقلّ- وإنّما تسليمٌ عن جهل.

إنّ الثقافة العربية المعاصرة وفي الطّريقة التي يُعَلَّمُ بها الأبناء الدّين نجد أنّ مفهوم عنصر الاعتقاد بحسب تعبير جيمس فريزر -والمقصود به في هذا السياق الإيمان- نجد أنّه مُقصىً تماماً. إذ أنّ الإسلام كدين في عصرنا هذا باتَ ممارسة مجردة من أيّ حس روحانيّ وقِيمِيٍّ. بل في عٌرف البعض أنّ إعفاء اللّحية وإقامة الصلاة وأداء الزكاة هو ذاك الإيمان. وبسبب هذه الثقافة إذا سَمِعَ شبابكم بعض الأفكار كالدّاروينية واطّلعوا على الفلسفة الماديّة فسرعان ما ينحرفون عن جادّة الصواب والتي هي المعايير الجّافّة التي لٌقّنت لهم والتي يَحسبُها الأهل مُحكَمة ومتينة وهي هشة لا جوهر لها بل مجرد قشور جافة سُرعان ما تَدبِرُ وتَذوي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.