شعار قسم مدونات

الجزائر الإفريقية التي أخفيت عنّا!

blogs - علم الجزائر

علّمونا في المدرسة الجزائرية أن استقلال الجزائر كان حجر الدومينو الذي أسقط بدوره أحجار كل الدول الإفريقية التي كانت ترزح تحت الاستعمار، وأن الجزائر أصبحت بذلك كعبة الثوار بفضل ثورتها المجيدة التي ألهمت الشعوب المستضعفة، والحق أن هذا الكلام لا يجد ما يسنده تاريخيا وهو حالة من تضخم الأنا الوطنية، فالجزائر لم تكن يوما استثناء من إفريقيا التي آمنت بها فرنسا..

 

إفريقيا التي بقيت سجينة لخط سياسي رسمه لها الرجل الذي أمسك بزمام الأمور في فرنسا نهاية الخمسينيات الجنرال شارل ديغول! .. هذا الأخير الذي قال في تصريح شهير أن: "كل البلدان التي كانت تابعة لنا ثم أصبحت صديقة لنا تطلب مساعدتنا.. لكن لماذا مد يد العون إذا لم يكن ذلك يجدي نفعا!"، لقد كان الكلام واضحا أن فرنسا لم ولا تؤمن باستقلال مستعمراتها الإفريقية، وأن مصالحها الحيوية فيها مسألة وجودية بالنسبة لها وأن لا شيء بالمجّان.

 

فالرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك كان يقول أنه لولا إفريقيا لصارت فرنسا في الغابرين!، وقد كشفت وثائق عدة تثبت أن اتفاقيات الاستقلال الصوري لمستعمرات فرنسا الإفريقية إنما تمت وفق شروط تضمن ديمومة المصالح الفرنسية فيها، وأغلب هذه المستعمرات تدفع إتاوات لفرنسا إلى غاية اليوم لقاء منحها الاستقلال، سواء بشكل مباشر أو من خلال إعطائها حصة الأسد في الاستثمارات والسوق التجارية وإنقاذ العديد من شركاتها المهددة بالإفلاس كما في الجزائر.

كان ديغول يعتبر أن ضمان استقلال فرنسا الطاقوي هو ما يضمن لها الاعتراف كقوة عظمى دوليا، وأغلب حاجيات فرنسا النفطية كانت تغطيها الصحراء الجزائرية، التي كانت بمثابة الأساس لشركة إلف الفرنسية النفطية العملاقة

عقب نهاية الحرب العالمية الثانية وتحديدا بعد مؤتمري يالطا وبوتسدام برز مفهوم وشكل جديد لعالم اليوم، وكان عام 1945 بداية لتمرد الشعوب المستعمَرة، وشهدت الجزائر على سبيل المثال مظاهرات حاشدة في الثامن من مايو من نفس العام لقيت قمعا شديدا أودى بحياة عشرات الآلاف في أيام معدودة، أدرك يومها ديغول أن مستعمرات فرنسا لن تكون مستثناة من هذا الحراك الذي يراد له أن يمضي نهاية الصورة القديمة للاستعمار المباشر.

 

ومع استفتاء عام 1958 في فرنسا الذي كان شهادة ميلاد الجمهورية الخامسة بقيادة ديغول، اقترح هذا الأخير على أربعة عشر مستعمرة إفريقية وضعا جديدا سيتطور مع بلوغ سنة 1960 إلى استقلال، والذي لا يعني بكل تأكيد الحرية!، فتفريط فرنسا في مستعمراتها الإفريقية مسألة لا تقبل الطرح ولا النقاش!، خصوصا مع اكتشاف الإمكانات الهائلة للقارة السمراء في مجال الطاقة في أواخر الخمسينيات.

 

كان ديغول يعتبر أن ضمان استقلال فرنسا الطاقوي هو ما يضمن لها الاعتراف كقوة عظمى دوليا، وأغلب حاجيات فرنسا النفطية كانت تغطيها الصحراء الجزائرية، التي كانت بمثابة الأساس لشركة إلف الفرنسية النفطية العملاقة، لم يكن من المقبول نهائيا أن يتم مسح كل هذا من الخريطة بجرة قلم من كريم بلقاسم (رحمه الله) مثلا أو غيره من الوفد المفاوض على طاولة اتفاقيات إيفيان، ولهذا ناورت فرنسا في اتفاقية استقلال الجزائر على عدم تسليم الصحراء.

راحت فرنسا تبحث عن بدائل أخرى للجزائر مثل الغابون وغيرها، وكان أهمّ ما يشغل بال ديغول وإدارته هو تحقيق الاستقرار السياسي في البلدان الغنية بالنفط، فالانقلابات المتتالية التي كانت تحدث كل بضعة أشهر وكل سنة في الدول الإفريقية الناشئة تعدّ عائقا أمام الاستثمار الفرنسي، وتهديدا لأمنها الطاقوي، كان لابد لضمان الاستقرار السياسي من جعل الشركات النفطية الفرنسية الذراع العسكرية لفرنسا في إفريقيا، بحيث يكون جزء من عائداتها مخصصا لتمويل عمليات عسكرية في المستعمرات السابقة، ودعم الانقلابات التي تكون بقيادة العساكر الأفارقة الموالين لفرنسا.

 

وكان يقف على تنفيذ رؤية ديغول وسياساته في إفريقيا رجلين من ثقاته اختبر ولاءهما في الاستخبارات الأمنية في المقاومة الشعبية أثناء الاحتلال النازي لفرنسا، وهما بيار غيوما الذي عيّنه رئيسا لشركة إلف النفطية الفرنسية، وجاك فوكار أحد مهندسي عودة ديغول إلى الحكم سنة 1958، وهو من أخبره بنبأ محاولة الانقلاب الفاشلة عليه التي حدثت في الجزائر سنة 1961 من طرف جنرالات الجيش الفرنسي الذين كانوا ضد مفاوضات الاستقلال ، كما كان فوكار المهندس السرّي والفعلي لسياسة فرنسا في إفريقيا وكان يشغل منصب الأمين العام للإيليزيه المكلف بالشؤون الإفريقية، وكان الوحيد الذي يحقّ له مقابلة الجنرال ديغول كلّ مساء!، وفوكار بدوره أحاط نفسه بأخلص الرجال له وكان أغلبهم خريجي المدرسة الوطنية لإطارات الإدارة الاستعمارية، لقد كانوا جميعهم من أكثر الشخصيات تطرّفا في خدمة مصالح فرنسا الاستعمارية وآمنوا طوال حياتهم بحقّ فرنسا المطلق في إفريقيا.

رغم انهيار منظومة العلاقات المعقدة التي أقامها ديغول في إفريقيا، ظلّت فرنسا تحاول أن تستعيد مجدها الاستعماري الديغولي، فبمجيء شيراك للسلطة أعاد رجل إفريقيا القديم جاك فوكار مكلفا بالشؤون الإفريقية في محاولة يائسة لاستعادة الماضي الذهبي

كانت فرنسا دركي القارة الإفريقية التي تلقت ضوءًا أخضرا من الولايات المتحدة الأمريكية لإطلاق يدها فيها حتى تحاصر تمدد النفوذ السوفييتي في إفريقيا، وتم إسقاط الأنظمة والحكومات التي أغراها الخطاب الثوري والتحرري السوفييتي بالانقلابات والفوضى وكانت معظمها من تدبير وتنفيذ أجهزة الاستخبارات الفرنسية، فعلى سبيل المثال كانت غينيا أول بلد إفريقي قرر الخروج عن عملة الفرنك الفرنسي لغرب إفريقيا، فلجأت المخابرات الفرنسية لإغراق البلاد بالعملة المزيفة لزعزعة عملتها الوطنية، ما زاد من صعوبة تعافي الاقتصاد الغيني المريض أصلا! وقامت بتدريب معارضين غينيين وتسليحهم لخلق جو من الخوف وانعدام الأمن ومحاولةً لإسقاط الرئيس سيكو توري صديق الاتحاد السوفييتي.

 

وفي الكاميرون كانت الاستخبارات الفرنسية شريكة في اغتيال السياسي موميي المعارض لنظام الرئيس آهجيو أحمدو صديق فرنسا الحميم، وغيرها من العمليات القذرة التي لم تكن بدعا عن ماضي فرنسا، يقول موريس روبير أحد رجالات جهاز مكافحة التجسس الفرنسي في مذكراته أن ديغول لم يكن يعطي موافقته بشكل رسمي ومباشر على مثل هذه العلميات، وإن فعل فنادرا جدا، وإن لم يقل "لا" يُفهم ذلك على أنه ضوء أخضر وكنّا نسمّيه "الضوء البرتقالي"، أي أن نفعل ما نراه بينما يتظاهر بأنه لا يسمع ولا يرى!، ولم يكن حتى الانقلاب العسكري الذي قام به العقيد الجزائري هوراي بومدين على أحمد بن بلة بعيدا عن أعين الفرنسيين أو إرادتهم بل يذهب البعض إلى أنه كان بضوء أخضر من باريس .

رغم انهيار منظومة العلاقات المعقدة التي أقامها ديغول في إفريقيا، ظلّت فرنسا تحاول أن تستعيد مجدها الاستعماري الديغولي، فبمجيء شيراك للسلطة أعاد رجل إفريقيا القديم جاك فوكار مكلفا بالشؤون الإفريقية في محاولة يائسة لاستعادة الماضي الذهبي، لكن لم يدم الأمر طويلا حتى مات الرجل الذي كان في أرذل العمر، ولأن المعطيات تغيرت كثيرا عن واقع الخمسينيات والستينيات، ولم يعد الرئيس الفرنسي اليوم سوى ممثّلٍ تجاري لمجموعة كبريات الشركات الصناعية الفرنسية، كما تحاول فرنسا السيطرة على أنظمة الدول الإفريقية من خلال الرؤساء المنتمين أغلبهم للمنظمات الماسونية الباطنية التي تجمع بين الإخوة تحت غطاء السياسة والاقتصاد.

خمسون عاما أو أكثر من استقلال إفريقيا عن فرنسا، لم تشهد فيها سوى المزيد من الفشل السياسي والاقتصادي والعسكري والصحي والتربوي، رغم ذلك لا يبدو أن فرنسا المحتاجة للطاقة ستتخلى عن مصالحها في إفريقيا على تراجع دورها.. وإلى حين يبقى سؤال الاستقلال الحقيقي معلّقا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.