شعار قسم مدونات

عن الغفوري.. كاتباً

blogs - مران الغفوري
القليل من الغرور قد يكون كافياً ليظن كاتبٌ ما أن كلماته ستجد آذاناً صاغية، والمزيد منه قد يصنع إعجازاً، كالقليل من الإعجاب والتشجيع من الوالدين مثلاً يحدثان فرقاً سحرياً في تصرفات الأطفال. هذا هو المدخل الغريب ربما للكلام عن الكتابة، وبالتحديد الكتابة في صفحات التواصل الاجتماعي، ففي الكتابة تلحُّ الفكرة على صاحبها، وتستحوذ على تفكيره، لدرجة اقترابها من السيطرة على مزاجه والتأثير في بعض تفاصيل حياته، ويتناسب الإلحاح طردياً مع عظمة الفكرة وعكسياً مع خبرة الكاتب في كتابة مثل هكذا مواضيع.

ودعونا لا نطيل في الكلام، ولنأخذ مروان الغفوري مثالاً على الكاتب اليمني الشاب، الذي عاصر الكتابة الصحفية منطلِقاً بالصُحُف وليس مُنتهِياً بالكتابة الإلكترونية، وبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع مواضيع كتابته، وهي من التنوع بحيث لا يجوز (مجازاً) الحكم عليها بقالب واحد، موافقةً أو رفضاً، وهذه أبسط قواعد الموضوعية في التفكير والنقد.

يمتلك الغفوري قدرة كبيرة على بناء موضوع كامل بمجرد فكرة التقطها من حوار مع صديق أو قرأها في كتاب أو مكالمة تيلفونية أو حتى من تعليقات متابعيه في صفحات التواصل، وهذا يدل على أنه قارئٌ ومستمعٌ جيد، وسريع البديهه قبل كونه كاتباً بارعاً، كما يمتلك قدرة على حشد كل ما يتعلق بالفكرة كثقبٍ أسود يبتلع كل مخزون الذاكرة فيما يتعلق بموضوعه، ولا يبدو لي أن الغفوري يحتاج إلا لمجرد وضع يده على لوحة المفاتيح أو إمساكه للقلم لتنداح الأفكار تلقائياً دون شعوره لتكوين مقالات جيدة النظم ومترابطة.

يختلف مروان الكاتب، عن مروان المتحدث، فجواد قلمه قلّما يكبو بينما تصعُب مضاهاة حديثه لكتابته في ظل عدم وجود الحرية الكاملة للحديث في الوسائل المختلفة التي لا يمكن أن تدع له الفرصة لينساب بلا نهاية، كذلك ينتاب السامع شعور بغرور مروان أثناء الحديث.

يحافظ الغفوري على جمهوره بأكثر من طريقة، وبتنويع المواضيع ودرجة تعقيدها، فبينما تستهوي مقالاتُه الأنيقة التي يستشهد فيها بأقوال المفكرين والكتاب – سيما الأجانب- قطاعَ المثقفين والنخب السياسية والأدبية، تجذب الكتابات البسيطة اهتمام القارئ العادي الذي يهتم بأمر البلد ولا يهمه الكثير من الشواهد والاقتباسات، وهو ما جعل من المقالات في الفترة الأخيرة من أسهل كتاباته كونها تعالج واقعاً ملموساً ومشهوداً بسبب ظروف الحرب التي تعيشها اليمن وتعز بشكل خاص، والتي تستحوذ على لبّ الكاتب التعزّي مروان، بدون أن يمنعه ذلك من العودة إلى مصطبة الصفوة التي اعتاد الجلوس فيها مع أصحابه القدامى ولو بطريقة الفلاش باك.

وللغفوري طريقة خاصة – فيما أظن – في التعامل مع القارئ الإصلاحي خصوصاً، فمروان الذي كان جزءاً من التجربة الإصلاحية، ويقول إنه لم يعد كذلك حالياً، يتعامل بذكاء شديد مع القارئ الإصلاحي الذي يشكل نسبةً كبيرة من قرائه، ونسبةً كبيرة من أصدقائه المقربين، حتى مع اختلافه معهم في بعض الآراء، إذ يداول مروان بين مقالات انتقاد الإصلاح ومقالات إنصافه إن لم يكن مدحه أحياناً، لكنه لا يلبث أن يتبع مقالات المدح بالانتقاد، حتى تبدو وكأنها لدرء تهمة الإنتماء للإصلاح التي لا تزال تلاحقه حتى ولو أعلن خلاف ذلك، أو حتى لو أعلن بعض أعضاء الإصلاح الحرب عليه كمتساقط كما يحلو لبعضهم أن يصف كل من اختلف معهم بعد اتفاق.

في كل الأحوال، أظن أن كتابات مروان – العصي على الترويض – تساعد على ترويض القارئ الإصلاحي الشرس ببطء وتقلل من حساسيته تجاه بعض المواضيع بأسلوب تدريجي يشبه علاج الحساسية التنفسية لدى بعض المرضى بتعريضهم جزئياً وتدريجياً لمواد التحسس، وهذا ما يجعل من كتاباته ذات فائدة دائمة حتى في حال الاختلاف، كون انفتاح أفراد الإصلاح على كل الأطياف ينبغي أن يبدأ من ذواتهم بتقبّل الآراء المخالفة أو النيران الصديقة قبل تلك البعيدة.

يكتب الغفوري أحيانا مقالات لا يستطيع أقوى منظّري الإصلاح التعبير عنها، مما يجعله يحوز على إعجابهم وتراودهم مُنَى عودة الابن الضالّ، لكنه لا يلبث أن يكتب ترياقاً لهذه الأماني، وبتكرار هذه العملية يتيقن القارئ الإصلاحي أنه لا مناص من الإعجاب بفكرة تصدر من أحدٍ خارج إطار السياج الفكري الآمن الذي تصنعه مؤسستهم، بقصد أو بدون قصد، في فترة النمو والتكوين، لتنشأ أجيال جديدة في الإصلاح تتقبل الرأي حتى من غرمائهم التاريخيين بكل أريحية، حيث يخشى بعض الإصلاحيين الإعجابَ بأي فكرة من مجهول أو غريم خوفاً من التلميع لأشخاص قد يجلبون لهم المتاعب لاحقاً، والغفوري ربما أكبر الأمثلة لديهم على نكران الجميل كما يعتقد بعضهم، أو انقلاب سحرهم عليهم كما يصف غرماؤهم.

فيما يخص الأعمال الروائية للكاتب مروان الغفوري، فهي تتيح له التوسع والتفصيل وإيصال أكبر قدر من الرسائل الاجتماعية والسياسية والفكرية، في إطار أدبي متناسق، لا يتسع المقام للحديث عنه، وهو موضوع جديرٌ بالدراسة حقا.

يستطيع القارئ الفذ، بمتابعة كتابات الغفوري وتحليلها فنياً، أن يدرك طريقة تفكير الغفوري كتفاعل انشطاري ينتج عن نواة واحدة ليحدث دماراً هائلاً، ويستطيع كذلك لو قدّر له الدخول في مجال تفكيره، أن يدرك إلحاح الفكرة، واستيلاءها عليه بما يشبه الوسواس القهري المتسلط على صاحبه، وقدرته على إعادة تدوير وبلورة الأفكار وربط الأحداث بما يشبه الخيال أحياناً في مزج غريب بين المقالات الصحفية والروايات الأدبية التي يجيد مروان كتابتها كما يجيد قراءتها.

يختلف مروان الكاتب، عن مروان المتحدث، حسب رأيي، فجواد قلمه قلّما يكبو (فنياً) بينما تصعُب مضاهاة حديثه لكتابته في ظل عدم وجود الحرية الكاملة للحديث في الوسائل المختلفة وفي منصات الكلام التي لا يمكن أن تدع له الفرصة لينساب بلا نهاية، كذلك ينتاب السامع شعور بغرور مروان أثناء الحديث أكثر منه أثناء الكتابة، والغرور في كليهما موجودٌ وهو سر نجاح أي كاتب، إضافة إلى سرعة التحدث التي لا تتناسب مع عمق المعلومة التي تحتاج إلى تأني في الكلام.

أمرٌ آخر فيما يخص مروان، فهو لا يعترف بالحدود ولا بالقيود أياً كانت، يكتب ما يريد وما يراه مناسباً حتى لو أغضب الجميع، لذلك لا يمكن ترويضه كما لا يمكن التأكد من نمطٍ واحد لمزاجه، وعلى مَن يخافون إفشاء أسرارهم أو عرضها في مزاد علني، أو لديهم ما يخافونه، أن لا يقتربوا منه مسافة مائة قدم، فضلاًعن مناقشته أو إجراء حوار معه، فهو يكتب كما يفكر، ويقرأ ما لا يريد محاورُه قولَه قبل ما يريده، لذلك لا غرابة أن تبدو مقالاته متضادة، لأنه فقط يتبع غريزته، التي تتحرك وفق الإرث الثقافي، الأدبي، السياسي الذي يحتويه بين أضلاعه، ووفق تغير الأحداث وربما المزاج العام والخاص في بيئته النفسية الهائجة دوماً.

أما فيما يخص الأعمال الروائية، فهي تتيح له التوسع والتفصيل وإيصال أكبر قدر من الرسائل الاجتماعية والسياسية والفكرية، في إطار أدبي متناسق، لا يتسع المقام للحديث عنه، وهو موضوع جديرٌ بالدراسة حقا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.