شعار قسم مدونات

هل جربت التغريبة؟

مدونات - علم الصومال
هززت أوتاد المطارات حتى تساقط الصومال في داخلي، لم أعد أعرف ملامح وطني، يوم أمس وقفت على جسر التايمز أبحث عن جبلاَ يرفعني لعليائه ويعصمني من نفسي، عن جبلاَ يمدّ يده ليضمني، عن جبلا يضعني فوق خارطة الضباب لعلي أرى طين بلادي! ما أبعد التايمز عن عنبرود عمود! ما أبعد المنفى عن الوطن! ما أبعد التغريبة عن التشريقة!
هل جربت العيش في التغريبة، هل جربت الركض بين الصالات والسباحة ضد التيار والجوازات، الترحال بين الأمم والترانزيت بين الشعوب، هل جربت بأن تكون مؤقتاَ لثلاثين عاما؟ هل جربت أن تكون الطبعة الثانية على الدوام؟ المواطنة من الدرجة الثانية على الخصوص!

التغريبة قبل كل شيء هي أن تبدأ في دراسة ذاتك الإنسانية، لا من الكتب بل من الحياة نفسها، فراق شرقيتك وجنوبيتك، الانتزاع من عالمك المألوف، أحلام اليقظة عن حارتك القديمة وأنت تتمشى على طرقات لندن ومالمو وشتوغارت، جميعها دواعي هامة للكتابة عن التغريبة الصومالية والتعمق في ثناياها الاجتماعية والثقافية واللغوية، لأول مرة في تاريخه يجد الصومالي نفسه في ثنائية الاغتراب والروح "مرتحلاً بين الألوان والأوطان" يخشى موت البدوي في داخله وضياع اللغة والتراث والدين.

لا أحد يغادر وطنه إلا إذا كان وطنه فم القرش، أنت لا تهرب إلى الحدود إلا عندما ترى المدينة كلها تهرب نحو الحدود كذلك.. نعم لا أحد يغادر وطنه حتى يستحيل العيش فيه بكرامة.

الرجل القادم من ثقافة النسب Filiation حيث الكل ينتسب إلى عشيرة وجد وأعمام وقبيلة كبرى وإقليم محدد، يطلب منه نظريا الانتقال عن طريق الانتساب Affiliation إلى علاقة عامة مع وطن بديل أفكار جديدة وعلاقات إنسانية واسعة في مجتمعات ليبرالية تسودها لغات لاتينية وثقافات مختلفة.

هل يمكن العيش بهويات ثقافية متعددة بدون فقدان الأصالة الوطنية؟ العيش في نقطة ساخنة باردة، بين بين حضارية هي معضلة إنسانية لا يعرفها إلا المنفيون، شباب قلبهم إنكليزي وقالبهم صومالي عراقي فلسطيني إلخ، ومع ذلك ليسوا من هنا (المهج) وليسوا من هناك (الوطن).. وضعوني في إناء ثم قالوا لي تأقلم، وأنا لست بماء أنا من طين السماء وإذا ضاق إنائي بنموي.. يتحطم (أحمد مطر)

هل جربت بأن تكتب عن كل هذا في مقال؟ تقول الشاعرة الصومالية المهجرية ورسن شيره: "لا أحد يغادر وطنه إلا إذا كان وطنه فم القرش، أنت لا تهرب إلى الحدود إلا عندما ترى المدينة كلها تهرب نحو الحدود كذلك"، نعم لا أحد يغادر وطنه حتى يستحيل العيش فيه بكرامة، اندلاع الحرب الأهلية الصومالية في أوائل التسعينيات الميلادية كانت سبب النزوح الأساسي، تقول شابة صومالية لندنية كنا نعيش في عالم الأطفال نذهب إلى المدرسة صباحاً ونعود في المساء إلى منزلنا الكائن في حي المدينة بـ مقديشو وذات صباح ودعنا معلمنا وقال لا تعودوا غداً، الرصاص في كل مكان، أخبروا أهاليكم أنها إجازة مؤقتة! سائق الباص لم يسلك الطريق المعتاد، أطيط العجلات كان مختلفاً كقصيدة نزراية "واستشهد السلام في وطن السلام" وحتى يومنا هذا ما زلت في إجازة مؤقتة ولم نعد لمدرسة محمود حربي!

سطور التغريبة بطول أسبابها التي نشئت عنها (سياسية، اقتصادية، اجتماعية) ولا مجال لسردها هنا فحكايات الصوماليين لو قدر لها أن تجمع وتؤرشف لشكلت مصدرا لا ينضب.

لا أعرف عدد الصوماليين في الغرب لكنه رقم قريب من المليونية، خلال ربع قرن تشابكت المقادير مع المنافي، قصص الاندماج والانصهار، الضياع والنجاح جميعها ترافقت في هذه التغريبة الحية. تجدهم في شمال النرويج يبحثون عن لقمة الكرامة على متن سفينة بترولية لشهور ستة بدون إجازة يوم واحد حتى! وستجدهم للأسف مراهقين في السجون بسبب العطالة وفقدان توجيه الآباء، النقيض ونقيضه. منتهى العلمانية ومنتهى الوسطية، بناة مساجد وبناة جمعيات قبلية، ألم أقل النقيض ونقيضه!

في الختام سطور التغريبة بطول أسبابها التي نشئت عنها (سياسية – اقتصادية – اجتماعية – مغامرات) ولا مجال لسردها هنا فحكايات الصوماليين لو قدر لها أن تجمع وتؤرشف لشكلت مصدرا لا ينضب من التراجيديا والكوميديا. هل جربت الكتابة عن تغريبتك؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.