شعار قسم مدونات

"سلفية البلاط".. بين فكر الإرجاء وفكر الخوارج

مدونات - مفتي السعودية
أشتهر في تاريخ المدارس الكلامية الإسلامية، مدرستان متضادتان في الطرح الفكري وفي المواقف العملية: إحداهما تذهب في مواقفها الفكرية والعملية إلى أقصى اليمين في التطرف حتى كفرت مرتكب الكبيرة وحملت على المسلمين السلاح، وهي مدرسة "الخوارج"، والمدرسة الأخرى على العكس منها تماما تذهب في مواقفها الفكرية والعملية إلى أقصى اليسار في التعايش مع المنكرات وإرجاء أمر مرتكبيها إلى يوم الحساب، حتى فَصَلَتْ بين الإيمان والعمل، وجعلت العمل لا أثر له على الإيمان، "فلا تضر -عندهم- مع الإيمان معصية ولا تنفع معه طاعة" وهم المدرسة الموسومة في كتب الفرق والمذاهب باسم "المرجئة".

والمعروف تاريخيا أن فكر الإرجاء نشأ في أحضان السلطة، وبالذات في كنف الدولة الأموية، التي سعى أمراؤها ومن لف لفهم من أصحاب القلم إلى تبرير أخطائها وقمعها لمعارضتها السياسية وتنكيلها بها، من خلال إعطاء ذلك الفعل صبغة دينية، تجعل الانحراف أمرا لا يخدش في الإيمان، وبالتالي لا يطعن من الشرعية السياسية.

ورغم أن فكر هاتين المدرستين أو "الفرقتين" –بحسب تعبير الأقدمين- شاذ وبعيد عن المزاج المعتدل والفطر السليمة لأنه متطرف إما في أقصى اليمين وإما في أقصى اليسار، رغم كل هذا فإنه ليس من المستغرب ولا من المستبعد أن يظل لكل منهما أتباع على مر الزمان –يَقِلُّوْنَ أو يَكْثُرُونَ- يجترون أفكارهم ويستنون بنهجهم، فالبشر لا يمكن أن يكونوا جميعا ذوي فطر سليمة ومزاج معتدل، بل لا بد أن تظل دائما هناك نتوءات على جنبات الاعتدال، وتلك سنة الله في الحياة.

ليت هذه القسوة الدينية لدى هؤلاء التي تبالغ في إظهار الاعتناء بالسنة والانتصار لها، بتبني المواقف الدينية المتشددة، ليتها صرف جزء -ولو قليل- منها في نقد الحكام ونقد رعوناتهم ومواقفهم السياسية التي تضرب صميم الإيمان وصميم أحكام الشريعة!

ولكن الأمر الغريب حقا هو أن ينبت على جنبات هاتين المدرستين مدرسة ثالثة تخلط بين آراءهما المتناقضة في فكر هجين غريب، والأغرب من كل هذا أن تكون هذه المدرسة تدعي السلفية بل وتحتكر كل ما يتعلق بالسلف وتدعي أنها هي "الفرقة الناجية"، وما سواها من "الفرق" هلكى وفي النار.

إن المتأمل في المواقف الدينية والسياسية لـ"السلفية السلطانية" -أعني السلفية المرتبطة بالسلاطين- يدرك أنها تجتر فكر الخوارج والمرجئة في خلط غريب بين المتناقضات، وإن أدعت اعتناق مذهب السلف وقالت القول المنكر في الخوارج والمرجئة، مع أنها تفتقد ما لديهما أو على الأصح ما أشتهر به الخوارج من الفروسية والشجاعة والجود بالنفس في سبيل المبادئ والقناعات!

فمواقف هؤلاء من الحكام وخضوعهم الكامل لهم وتبريرهم لخطيئاتهم تحمل في تلافيفها كل مساوئ فكر أهل الإرجاء.. فإضفاء قداسة على "ولي أمر" ناقص الشرعية بل فاقد لها تفوق تلك التي كان يتعامل بها الصحابة مع أبي بكر وعمر، وتبرير خطاياه، حتى ما كان منها يضرب في صميم عقيدة الولاء والبراء، مثل قتل المصلين في رمضان في ميدان رابعة والتحالف مع إسرائيل ورهن حاضر ومستقبل المسلمين لأمريكا، ومنابذة المسلمين في أقدس الشهور ومنعهم من زيارة بيت الله الحرام واعتقالهم داخله وهم يؤدون العمرة، وحصارهم وتجويعهم، في مسائل كثيرة من رعونات الملوك، يتم تبريرها بباسم الدين وباسم السلف!

ليست هذه مجرد مواقف جزئية أملتها الإكراهات ولكن المتأمل في خطاب السلفية يدرك أنها تنطلق من رؤية كلية أساسها مركزية "ولي الأمر" في فكر هؤلاء والتسليم الكامل له، وطاعته في المعروف وفي المنكر -إن كان يرتكب المنكر- وإمرار مواقفه السياسية كما جاءت، دون مناقشة أو استدراك، فـ"ولي الأمر" لا معقب لحكمه، تماما مثل ما كان المرجئة يبررون منكرات السلاطين دينيا بحجة أن العمل منفصل عن الإيمان، فيكفي أن تؤمن ولا يضرك بعد ذلك ما ترتكبه من منكرات.

من ناحية ثانية تغيب هذه الوداعة وهذا التبرير الجاهز لتصرفات الملوك ورعوناتهم عند ما يتعلق الأمر بالحركات والجماعات الإصلاحية الإسلامية، فهنا تحضر قسوة الخوارج والوجه المكفهر الذي يحتكر الحقيقة، وينفي بشكل قاطع أن يكون منها ما هو نسبي، ويبالغ في ادعاء تَمَثُلِ السنة وإتباع نهج السلف، وهنا تجد أن أدبيات هؤلاء قد كُرِّسَتْ في الأغلب الأعم لتبيان معايب الجماعات الإصلاحية وترصد أخطائها وبذل أقصى الجهود لإخراجها من "أهل السنة" ومن "الفرقة الناجية" وإلحاقها بالفرق الضالة، وتبرير قتل عناصرها ومطاردتهم في الحل والحرم، والتحالف مع الكفار والحكام الظلمة الفسقة من أجل ذلك، وهذا هو عينه صنيع الخوارج الذين وصفتهم الأحاديث النبوية بأنهم "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان"(البخاري).

فليت هذه القسوة الدينية لدى هؤلاء التي تبالغ في إظهار الاعتناء بالسنة والانتصار لها، بتبني المواقف الدينية المتشددة -التي فيها تحريج وإعنات على الناس- في العبادة وفي جوانب الحياة الاجتماعية، وبالحرص على قمع المخالفين في الرأي وإلصاق تهمة "البدع" و"الضلال" بهم، ليتها صرف جزء -ولو قليل- منها في نقد الحكام ونقد رعوناتهم ومواقفهم السياسية التي تضرب صميم الإيمان وصميم أحكام الشريعة، إذن لأنصفنا أهلها.

إن السلفية ليست ادِّعَاءً وليست تردادا لأسماء أشخاص بأعينهم والتمسح بها، بل هي منهج إسلامي قائم على السماحة مع المؤمنين والمفاصلة لأهل الظلم والجور حكاما ومحكومين.

أما أن تقسو على الشعوب وعلى الجماعات الإسلامية الداعية للإسلام التي احتملت في سبيل ذلك كل ألوان الأذى من سجن وقتل ومنع من الحقوق السياسية وحتى الحقوق الآدمية، وتصفها بأبشع الأوصاف وأقذع الألقاب، ثم تلين مع حكام الجور والتبعية -الذين يسعون بسياساتهم العرجاء إلى ربط حاضر الأمة ومستقبلها بالعدو المشرك- وتخضع لهم بالكلية وتبحث لهم عن الأعذار والمبررات وتتوسع في استخدام المصلحة في مقابل النص لتبرر بوائقهم السياسية، وأنت الذي كنت تذم المصلحة والقائلين بها من الفقهاء والأصوليين وتصفهم بأهل الأهواء وبمخالفة منهج "أهل السنة"، فهذا هو
التناقض والخلط بعينه، وهو الفكر الهجين الذي يجمع بين مساوئ الخوارج والمرجئة.

وكما قلنا هناك، أقول هنا بأن هذه ليست مجرد مواقف جزئية في نقد الحركات الإصلاحية، وإنما هي مواقف تنطلق من رؤية كلية تعطي للسلفية ولأهل "السنة والجماعة" تفسيرات ضيقة تجعل كل من لا يؤمن بتلك التفسيرات خارج دائرة "الفرقة الناجية"، تماما مثل ما فعل الخوارج في تفسيرهم لآية التحكيم "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" عند ما جعلوا كل من يقول بتفسير مخالف لتفسيرهم خارج دائرة الإيمان.

إن السلفية ليست ادِّعَاءً وليست تردادا لأسماء أشخاص بأعينهم والتمسح بها، بل هي منهج إسلامي قائم على السماحة مع المؤمنين والمفاصلة لأهل الظلم والجور حكاما ومحكومين، كذلك كان الصحابة الكرام وكذلك وصفهم القرآن الكريم بأنهم "أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ"، وكذلك كان الإمام أحمد بن حنبل وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، فلم يعرف عنهم خضوع للسلاطين ولا مداهنة لهم، بل المعروف من سيرهم أنهم دفعوا ضريبة مواقفهم؛ سجنا ومطاردة وتنكيلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.