شعار قسم مدونات

العبيد الجدد

blogs - احتجاج ريف المغرب ومواجهات مع الامن
لكم استهجنت كل القوانين والأعراف والمواضعات الإنسانية فعل استعباد واسترقاق الكائن البشري، واستصغاره إلى حد جعله في مصاف الكائنات الدنيا من سلم المخلوقات الكونية، وأُنزِّه قلمي في هذا المقام أن يدخل في مقارنة "الإنسان" بما دونه، حفظا لماء وجه أبناء جلدتنا أولا، ثانيا لأن الكاتب "ممدوح عدوان" كفاني مؤونة اجترار الحديث عن "حيونة الإنسان" خلال فصول كتابه المعروف.
قد يستنكر القارئ علينا هذه التقدمة الشوبنهاورية المتخمة بالتشاؤمية والمُغرِقة في السوداوية القانية، خصوصا ونحن في عهد بلغ فيه التحرر – في بعض الحالات- مداه الأقصى، وفي عهد "حقوق الإنسان" و"المساواة" و"الحريات" و"المدونات القانونية والعدلية" و"المواثيق الدولية" وغيرها من الأناشيد والتراتيل المرددة على طاولات النقابيين والسياسيين وعلى موائد الفنادق الفخمة!

قطعا، وارتباطا بالعنوان، لا أتحدث عن عصور العبودية الغابرة التي سردها التاريخ البشري عبر جحافل الضحايا التي قُدِّمت قرابين لإرضاء آلهة الأسياد، ولا أتحدث عن أزمنة كهوف الظلام حيث انساق العقل الجمعي خلالها نحو الفكر الأرسطي "العنصري"، الساعي إلى بسط تصنيفات طبقية مُمايِزة؛ إنما أقصد أولئك البسطاء، الفئة التابعة لما يسمى قطاع "الإنعاش الوطني"، الفئة التي تجاوزت معاناتها اليومية معاناة "بروليتاريا" ماركس، و"رقيق" أبراهام لينكولن" و"سُودِ" مارتن لوثر كينغ و"بؤساء" فيكتور هيغو؛ ولست هنا في معرض المبالغات والتجديف بكلام فانتازي منقطع الصلة عن الواقع، بل أؤكد ما أقول وأنا المرتبط بمعيشهم اليومي صباحا ومساء، وأستشعر مدى مرارة حياتهم العامة، ومدى استعدادهم في أي لحظة لتقديم استقالتهم منها دون الالتفات لكافة أشكال الرقابة المجتمعية والدينية.

المفارقة العجيبة الآن تقديم المغرب لدعمه للحملة العالمية لمناهضة الأشكال الجديدة للرق، والتي تقودها منظمة العمل الدولية التي عقدت مؤتمرها الـرابع بعد المائة بجنيف، واسترقاق مؤسساته في نفس الآن لجماعات بشرية استرقاقا لا يزال وفيا لنمطه الكلاسيكي المخيف!

هذه الفئة باختصار،تعمل تحت إدارة مباشرة من مؤسسات الدولة الرسمية (عمالات، بلديات، دور الشباب…) وتسند إليها وظائف حسب حاجيات المرفق العمومي من تنظيف و حراسة وخدمات نقل وتصليح وغيرها من الأشغال المتطلبة للجهد و المرهونة بفترة عمل تفوق أحيانا عشر ساعات في اليوم وعلى مدار الأسبوع، براتب شهري يتراوح بين ألف وخمس مئة درهم (140 دولارا) وبين ألفي درهم (190 دولارا)!

إن كل أشكال التغييب والتهميش التي تتعرض لها أعداد هائلة من أفراد المجتمع المهضومة ماديا ومعنويا، وكذا استلاب كافة حقوقها الضرورية و الإحيائية، لهي الأسباب الحقيقية والرئيسة الكامنة خلف التذمر الشعبي والسخط الجماعي إزاء مختلف السياسات العمومية المنتهجة من قبل المؤسسات العمومية كائنة ما كانت وظيفتها الخدماتية وكائنا ما كان وزنها داخل أجهزة الدولة، مادامت هذه الأخيرة لا تلتفت إلى تحسين شروط الحياة المهنية والشخصية لصغار "المُنْعِشين" – كما يُدْعَون – ومادامت البرامج السياسوية أيضا لا تمنح لهم حيزا ضمن مخططاتهم الإصلاحية بشكل جاد.

لعل "مصطفى حجازي" كان محقا حين استعرض بحثه في "سيكولوجية الإنسان المقهور"، ملفتا النظر إلى أشكال هروب ونفور هذا "المقهور" من كل باحات التجمعات البشرية، جانحا إلى التفرد والوحدة والانزواء بعيدا عن نشاطاتها اليومية جسداً ونفسًا، مادامت هذه النشاطات تستدعي وتفرض الانخراط التام فيها ومسايرة قوانينها وأعرافها الداخلية، وهذا ما يستحيل طبعا في ظل مكابدة يومية مع توفير المأكل والملبس والضرورات البيولوجية الصرفة. وبهذا إذن تكون "الشذوذات" المجتمعية والاستقالات الجماعية من الحياة العامة لهؤلاء "المقهورين" مبررة إلى حد كبير، على الأقل من زوايا خاصة، ولن نستغرب بعد الآن، كما رصد " إميل دوركهايم" تنامي أعداد الذين وضعوا نهاية لحياتهم بشكل نهائي، سواء في صفوف التجمعات حيث يكون الفرد غير مندمج تماماً في الوحدة الاجتماعية الكبرى، أو في صفوف الذين ينسحبون من الحياة بسب عدم الأمل المصاحب للضوابط القاهرة لكل أفعالهم، أي "أشخاصٌ مستقبلهم مغلق بقسوة ونزواتهم خنقت بعنف عن طريق نظام قهري" بتعبير دوركهايم.

متى تعترف أنظمتنا السياسية بما تقترفه في حق هؤلاء، وتلتفت إليهم التفاتة جادة، بعيدا عن الإغراءات الانتخابية الوهمية؟ ومتى نكون حقا قد استطعنا أن نعامل الإنسان على أنه إنسان؟ ومتى يحين وقت تكريم عبيدنا الجدد الأحياء ولو بنصب تذكاري من الجبس؟

المفارقة العجيبة الآن تقديم المغرب لدعمه للحملة العالمية لمناهضة الأشكال الجديدة للرق، والتي تقودها منظمة العمل الدولية التي عقدت مؤتمرها الـرابع بعد المائة بجنيف، واسترقاق مؤسساته في نفس الآن لجماعات بشرية استرقاقا لا يزال وفيا لنمطه الكلاسيكي المخيف! وهذا موضوع لا يحتاج للاستفاضة فيه، لأن السياسة العربية في مجملها تبقى فن تلميع الواجهات.

كتب الإنجليزي "توماس هوبز" ذات مرة قائلا: "الإنسان للإنسان ذئب، الواحد في حرب مع أخيه، والواحد في حرب مع المجتمع"، وقد يكون هذا القول صحيحا ومقبولا إذا تعلق الأمر هنا بما يصدره الإنسان من سلوكات "زواحفية" ضارية وقاهرة تجاه بني جنسه وعرقه، وهو مانراه متجسدا على نحو واضح على مدار الساعة بين الطبقات الهشة والمستضعفة المكروثة بالاستعباد بشكليه القديم والحديث!

من هنا إذن لا بد أن أحيي السيدة "درو فاوست" رئيسة جامعة هارفاد الأمريكية على إشرافها المباشر على الاحتفال المقام قبل أشهر في حرم الجامعة، كاشفة الستار عن اللوحة التذكارية المقامة استحضارا لذكرى أربعة عبيد عملوا داخل مبنى الجامعة خلال القرن الثامن عشر، قائلة خلال لقائها الصحفي: "على الرغم من أننا نحتفل بصورة مستمرة بالتقاليد الشهيرة لتاريخنا الممتد منذ أربع قرون، فإن العبودية هي أحد جوانب ماضي هارفارد الذي نادرا ما يتم الاعتراف به أو الاستشهاد به". فمتى تعترف أنظمتنا السياسية بما تقترفه في حق هؤلاء، وتلتفت إليهم التفاتة جادة، بعيدا عن الإغراءات الانتخابية الوهمية؟ ومتى نكون حقا قد استطعنا أن نعامل الإنسان على أنه إنسان؟ ومتى يحين وقت تكريم عبيدنا الجدد الأحياء ولو بنصب تذكاري من الجبس؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.