شعار قسم مدونات

لا إصلاح إلا بأنسنة التربية والتعليم

blogs - أطفال مدرسة
في تجربة تدريسية بالقطاع الخاص، اكتشفت مدى تدني نظام التربية والتعليم في المغرب، فهو أشبه بنظام عسكري يقترب فيه الأستاذ من درجة الضابط العسكري، بل حتى تعليماته أوامر مقدسة عند المتعلم لكونها تخضع لتوجهات مفروضة وصارمة تمتح نسغها من الخطوط العريضة لسياسة التعليمية للدولة والتي تصل المدرس عبر برنامج ومنهج؛ حولت فيهما التربية والمعرفة إلى قوالب جاهزة مرسومة الحدود والجغرافيا الذهنية، مما تصنع لنا إنسانا مسلوب التفكير ومسلوب الهوية.

تبدأ هذه العملية في صناعة كائن عسكري في نظام تعليمي تعلمي يدخل ضمن الحقل الإنساني، وتقع عملية السلب خلال مرحلة التدريس

وأثناء أجرأة خطط الدرس وأجرأة الأهداف. فترى المدرس يصهر على أمور التلقين البيداغوجي والنقل الديداكتيكي للقوالب الذهنية والولاء المنهجي لبناء الدرس وصولا إلى الأستذة العسكرية؛ حينما تكون كلمته؛ هي الكلمة الأعلى داخل جماعة القسم؛ فهو الذي يختار مثلا لون غلاف ويعاقب أي خرق له واستعمال موحد لألوان الكتابة ومعاقبة المتعلم الذي لم ينجز التمارين إلى غير ذلك من ممارسات الأستذة العسكرية، التي يجب أيضا أن تراجع، ما دام أن حقل التربية والتعليم يدخل ضمن الحقل الإنساني.

عندما كان المغرب يسير وفق مقاربة تعليمية استعمارية كاد يربك حسابات المستعمر والقوى المتنفذة في العالم، بينما الآن، فإنه يركب قارب الغرق عندما وضعنا عقول المسطرة والمستطيل في مركز القرار وهي من تتحكم في التعليم عوض عقول منابع القيم والمناهج الإنسانية.

وإذا قال أحدهم بان تشبيهكم فيه من شر البلية وفوضوية التدبير ما يفقد مثلا للمؤسسة العسكرية توهجها ونجاحاتها العسكرية، نجيبه: بأن المؤسسة العسكرية أيضا، لا يجب أن تتميز بالصرامة والعقاب فقط، قد يناقشك ويرد: يجب على المؤسسة أن تتحلى بصفات القوة والانضباط والتنظيم، لأنها تشكل حلقة الدفاع الخارجي لأي بلد، أجيبه بسؤال: وهل تحتاج إلى الصرامة والقوة والعقاب ليكون لك جيش قوي؟ إن كان الأمر كذلك فهذا يخبرنا بأن الكائن البشري، كائن عنيف وأن المدرسة السلوكية؛ هي الإجابة العلمية لجميع الخطوات التي يجب أن تتخذ في المجالات الإنسانية ومن ضمنها التربية والتعليم، لكن السؤال: لماذا تم تجاوز السلوكية في العملية التعليمية التعلمية ولم يحتفظوا بها رغم علميتها؟ ببساطة لأنها أثبتت الفشل، والأشياء لا يتم تجاوزها إلا بعد انتهاء صلاحيتها، أما بالنسبة لنا فقد تم تجاوز السلوكية نظريا واستمرت المقاربة التقليدية عمليا في المغرب، سواء في قطاع التربية والتعليم أو في قطاعات أخرى، ولنا في وزير الداخلية مثال وتحويله إلى وزارة التربية الوطنية دليل على مدى هذا التشبث بالمقاربة السلوكية في تدبير مؤسسات وقطاعات الدولة. 

إن تجاوز المدرسة السلوكية نظريا في المغرب والانتقال إلى مدرسة جون بياجي البنائية، يُظهر لنا، مدى الانفصام الذي تعيشه توجهات الدولة العامة، فتارة ونظريا تعتنق تطورات علوم الإنسان وقفزاته، خاصة وأن أحد ثوابت الدولة هو: الخيار الديموقراطي وتارة عمليا تنزل للحضيض بسياسات سلوكية عنيفة -يتجلى هذا الانفصام في كل المقاربات وخطوات الدولة، مما يعني غياب تصور وانتماء عند الدولة، ولعل أزمة الخليج الأخيرة تعكس هذه الأزمة، وحراك الريف يؤكد استمرارية مدرسة السلوك عملا بمفاهيم المثير والاستجابة، فيسكت المتظاهر ليس عن قناعة منه، بل نتيجة خوفه من العقاب الذي تنهجه الدولة، عوض أن تلجأ لخيار البناء عند بياجي وتبني حل للمشكل ــ هذا بين عارضتين.

وعودة للموضوع؛ فإن تجاوز المقاربة التقليدية، لا يؤكده لا ميثاق التربية والتكوين ولا الكتاب الأبيض ولا الرؤية الاستراتيجية، على الرغم من تسطير كل هذه الوثائق نظريا لعملية تجاوز المقاربة التقليدية والانتقال إلى المقاربة الحديثة، لكن التقليدانية جزء لا يتجزأ من هوية الدولة، وفي نموذج استمرارية المخزن جزء من أزمة الحداثة المغربية، وما الأصالة سوى الممارسة والمعاصرة سوى الكلام التنظيري والنظري. وبه فإن تجربتي الصغيرة قربتني من محيط مأزوم لا يتوقع مما يقال عن إصلاحاته أن تصلح شيئا، أكثر مما نتوقع أنها ستزيد الثقل ثقلا ويصبح التعليم في المغرب من خبر كان ويصبح نعشه أقرب إلينا، وهذه الوجوه التي تدبره وتسيره والتي لا تمت بصلة إليه جزء من الأزمة.

المقاربة الصحيحة هي التي تجعل المتعلم مركز العملية التعلمية والمدرس سوى قابض ليده وموجه لميوله؛ لا يعدو سوى منقب عن الذكاءات المتعددة للطفل، أما الأستذة الحديدية واللون الموحد والشعار الواحد وتقنين الفعل التعليمي وإلغاء حرية التعبير، هو تكريس لهزيمة المنظومة.

وتَغافُل مثقفي الوطن عن هذه الأزمة بتحالفها عن وعي أو غير وعي مع جماعة التكنوقراط، ما هي إلا تكريس للتأخر وصناعة للأزمة والتخلف بكل تجلياتها، ومنه نشيد بالأستاذ المهدي المنجرة بين عارضتين ـــ الذي أراد من المغرب دولة بحرية اليابان، فالتعليم هو الذي يصنع الشعوب لكننا رفضناه أولا عندما كانت اليابان مثلنا في زمن ماض وبردة تقليدانية ماضوية ضد البعثات التعليمية المغربية إلى الخارج، وعندما كان المغرب يسير وفق مقاربة تعليمية استعمارية كاد يربك حسابات المستعمر والقوى المتنفذة في العالم، بينما الآن، فإنه يركب قارب الغرق عندما وضعنا عقول المسطرة والمستطيل في مركز القرار وهي من تتحكم في التعليم عوض عقول منابع القيم والمناهج الإنسانية، ولعل ما قاله كونفوسيوش قبل الآلاف السنين أحدث مما تتصوره وتتخيله المنظومة التعليمية في المغرب، وهو القائل: "إذا كان مخططك لسنة فازرع الأرز، أما إذا كان مخططك لعشر سنوات فازرع الأشجار، أما إذا كان مخططك لمائة عام فعلِّم الأطفال".

إن نجاح منظومة التربية والتعليم تحتاج لعقل مفتوح، لعلماء إنسيين، مثل ربلي ورموز النهضة الهيومنساتية (الإنسية)، نحتاج لمنهاج ينهل من حرية التفكير ومن المساواة في الفعل ومن دماغ حر حاكم لتفكيره، ومن إلغاء للأستذة العسكرية والأمنية، ومن التشطيب على تنميط التفكير، ومن متسع حر يتصرف فيه المتعلم كما أراد ويفعل فيه ما يشاء؛ فالمقاربة الصحيحة هي التي تجعل المتعلم مركز العملية التعلمية والمدرس سوى قابض ليده وموجه لميوله واختياراته؛ إنه لا يعدو سوى منقب عن الذكاءات المتعددة للطفل، أما الأستذة الحديدية واللون الموحد والفكرة الواحدة والشعار الواحد وتقنين الفعل التعليمي وإلغاء حرية التعبير، هو تكريس لهزيمة المنظومة كلها ولا إصلاح يرجى من إضافة الماء للوحل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.