شعار قسم مدونات

كفران العشير

blogs - فراق
من أغرب ما رُوي في قصَّة المعتمد بن عبَّادٍ مع زوجتِه الرُّمَيْكِيَّة الملقَّبة بـاعتماد؛ أنَّه قضى معها حيناً من الدَّهر في سرورٍ وهَناء ورغدِ عيشٍ، ثمَّ حَدَثَ أنَّها رأتْ ذات يومٍ بإشبيليةَ نساءَ البادية يَبِعْنَ اللَّبن في القُرَب، وهنَّ ماشياتٍ في الطِّين، فقالتْ لزوجها: أشتهي أنْ أفعل أنا وجواريَّ مِثل هؤلاءِ النِّساء، فما كان من المعتمد إلَّا أنْ أمرَ بالعنبر والمِسكِ والكافورِ وماء الورد، وصيَّر الجميع طِيناً في بلاط القصر، وجعل من أجلها قُرَبَاً وحبالاً من إبريسم، ثمَّ خرجتْ هي وجواريها تخوض في ذلك الطين. ومرَّت الأيام فغاضبها المعتمد يوماً، فأقسمتْ أنَّها لم تَرَ منه خيراً قطُّ، فقال لها: ولا يومَ الطِّين؟! – تذكيراً لها بهذا اليوم الذي أنفق فيه من الأموال ما لا يعلمُه إلَّا الله تعالى، فاستحْيَتْ وَسَكَتَتْ، قال صاحب كتاب «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» – بعد أن ذكر القصة -: ولعلَّ المعتمد أشار في أبياتِه الرَّائيَّة إلى هذه القضيَّة بعد أسره مع أسرته حيث قال في بناتِه: يطأْنَ في الطِّينِ والأقدامُ حافيةٌ كأنَّها لم تطأْ مِسكاً وَكَافورا.

وقد جاء في هذا المعنى حديثٌ عن النبيٍّ صلَّى الله عليه وسلَّم أوردَه الإمام البخاريُّ في باب (كفران العشير وكفر دون كفر)، وفي باب (كفران العشير وهو الزوج، وهو الخليط، من المعاشرة) يقول فيه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ).

ربَّما يكون لك صديقٌ كان في يوم من أقرب الناس إليك، أكلتَ معه وشربتَ، وسافرتَ وأقمتَ، وقضيتَ معَه الأيام والليالي، وقد مرَّت علاقتكم بأيام جميلة لا تُنسى، وذكريات لا تُمحى، ثمَّ ولسببٍ مَا اختلفتم وتفارقتم، فإذا به يصبح كأنْ ليس بينك وبينَه مودَّة، ولسان حالِه يقول لك: فبئس العشير!

ومع هذا ومع كل ما ذُكر آنفاً فلا يظنَّنَّ أحدٌ أنَّ كفران العشير مقتصرٌ على الزوجة، أو أنَّه خاصٌّ بالنِّساء فحسب؛ وذلك بسبب ما جاء في الحديث النبوي السابق.. وإنَّما كفران العشرة هو معنىً مشتركٌ بين كثير من الناس من الرِّجال والنِّساء على حدِّ سواء، وإلى هذا أشار الإمام النوويُّ في أثناء شرحِه للحديث السابق، حيث جَوَّز أن يُراد «بالعشير»: الخليطُ والصاحبُ، أي: مطلق المعاشر سواءٌ كان زوجةً أو غيرَها، فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل، والمعنى: باب كفرانِ الصَّاحب أي: إنكار الصاحب والمخالط إحسانَ صاحبِه ومخالطِه.

أقول: ولعلَّ الشارع الحكيم إنَّما ذكر النِّساء في هذا الشأن وخصَّ الزَّوجة بهذا الأمر؛ لأنَّ العِشرة بين الزوجين هي أعظم عِشرة، ولأنَّ الرابطة التي بينهما هي أوثق رابطة. وقد تكون المرأة الأكثر إنكاراً وكفراناً للعِشرة كما هو الواقع من شأن كثيرٍ من النِّساء؛ وذلك بسبب ما تَمتاز به المرأة من أنَّها تتأثَّر وتتجاوَب مع كثيرٍ مِن المُتغيِّرات التي حولها بسرعة، عبْر مخزونِ العواطف الكامن في نفسِها. هذه الطبيعة الخاصَّة للمرأة تجعل عاطفتها هي غالباً المُتحكِّم الأوَّل في كثيرٍ مِن تصرُّفاتها التلقائية، وردود أفعالِها المُباشِرة وغير المباشرة، دون صرف الوقت في التفكير العميق لأخذِ القرار المتعقِّل، فسبحان من جبلها وجمَّلَها بهذه العاطفة، ولكنَّها أعني المرأة كما قلت ليست منفردةً بذلك وحدَها ولا مختصَّة بهذا الأمر دون غيرها إطلاقاً.

فكمْ من أُناس تعيش معهم الأيَّام والليالي، وتكون بينك وبينهم من المودَّة وحسنِ العِشْرة ما الله به عليم، فإنِ اختلفتَ معهم يوماً ما لسبب من الأسباب، أو انشغلت عنهم لعارضٍ من عوارض الدنيا – وما أكثرها-، فتجدُ لسانَ حال أحدهم يقول: لم أرَ منك خيراً قطُّ، ولم أرَ منك يوماً أبيضَ.

وكم تجدُ من شريكٍ كانت بينك وبينَه شراكة، وقد مرَّت سنونَ على هذه الشراكة، وقد كان فيها كثيرٌ من المحطَّات الجميلة والأيام المفرِحة والأوقات الممتعة، والأرباح الطائلِة.. إلى غير ذلك.. وقد يكون حصل بينك وبينَ هذا الشريك من المصارحة والمكاشفة ومعرفة أسرار بعضكم البعض ما وصل إلى العظم كما يُقال، وذلك نتيجة تلك العلاقة الحميمية التي كانت تجمعكم، فإذا اختلفتم فيما بعدُ لسببٍ من الأسباب، ثمَّ انفضَّت تلك الشراكة، وانتهتْ تلك العلاقة، فسرعان ما تجدُ العورات قد ظهرتْ، والأسرار قد كُشِفَت، والصحبة قد نُسيتْ، وتبدأُ الشائعات تنتشر هنا وهناك حتى تبلغ الآفاق؛ وخاصَّة في هذا الزمن زمن الفضاء الإلكتروني المفتوح، من خلال بيانات ومنشورات وتغريدات وذلك باستخدام مختلف وسائل التواصل الاجتماعي؛ حتَّى أصبحت هناك مواقعُ خاصَّة بالفضائح التي من هذا القبيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله..

وأيضاً ربَّما يكون لك صديقٌ أو رفيقٌ كان في يوم من الأيام من أقرب الناس إليك، ذهبتَ معَه ورجعتَ، وأكلتَ وشربتَ، وسافرتَ وأقمتَ، وقضيتَ معَه الأيام والليالي وسهرتَ، وقد مرَّت علاقتكم بأيام جميلة لا تُنسى، وبذكريات لا تُمحى، ثمَّ ولسببٍ مَا اختلفتم وتفارقتم، فإذا به يصبح كأنْ ليس بينك وبينَه مودَّة، ولسان حالِه يقول لك: فبئس العشير!

إيَّاكَ أخي أنْ تكون من هؤلاء الناس، وإيَّاكَ ثم إياَّكَ ونكرانَ الجميل، وإيَّاك ثمَّ إياك وكفران العشير… اشكر صنائع المعروف، وكنْ من الأوفياء المحسنين المنصفين، فإنَّ من حُسن العهد حفظَ الوٌدِّ ورعايةَ حرمةِ الصَّاحب والمعاشِر في كلِّ الأحوال.

وكذلك كمْ من إنسانٍ تقف معَه في الأيَّام الصعبة، وتكون بجانبِه في أوقات العُسرة، وتكون سندَه وعضده في آوان الشِّدَّة، فإذا استغنى عنك فيما بعد، أو بَعدُتَ عنه بسببِ ما يمرُّ على الإنسان من ظروف الحياة، وتصريفات الدَّهر وتغيُّراتِه، وإذ به ينسى كلَّ خيرٍ، ويتنكَّر لكلِّ معروف، وكأنَّك لا تعرفُه ولا يعرفك، وهكذا.. أليس كلُّ ذلك يا سادة من كفران العِشرة والعشير؟!

بل وأزيدكم من الشِّعر بيتاً -وهو الأدهى والأمرُّ-: وذلك أنَّك ربَّما وجدتَ بعضاً من هؤلاء الناس الذين ذكرتُ لك آنفاً يعود على تصرفاتك التي كانت طبيعية فيما مضى بأثرٍ رجعيٍّ، يُقلِّبها في ذاكرتِه، ويجري لها «إعادة هيكلة» كما يُقال، ثمَّ يقوم بعد ذلك بتفسيرها تفسيراً جديداً، ليُخرجها بنظرة سيئةٍ وبسيناريو مختلف يوافق الحالة الجديدة التي آلتْ إليها العلاقة فيما بينكم، فتصوَّر يا يرعاك الله!

وأخيراً.. إيَّاكَ أخي أنْ تكون من هؤلاء الناس، وإيَّاكَ ثم إياَّكَ ونكرانَ الجميل، وإيَّاك ثمَّ إياك وكفران العشير… اشكر صنائع المعروف، وكنْ من الأوفياء المحسنين المنصفين، فإنَّ من حُسن العهد حفظَ الوٌدِّ ورعايةَ حرمةِ الصَّاحب والمعاشِر في كلِّ الأحوال، سواءٌ استمرَّتْ العلاقة معَه أم انقطعتْ، وسواء أكان حيَّاً أم ميتَاً؛ وإنَّ الله ليَسأل عن صحبةِ ساعةٍ، والحرُّ من راعى وِداد لحظة.. وانتمى لمن أفاده لفظة. والسلام يا كرام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.