شعار قسم مدونات

بين دريد بن الصمة وقادات ثوراتنا

blogs حرب

في مثل هذه الأيّام من شوال قبل 1419 عامًا هجرية وقعت غزوة حنين التي خلّدها الله تعالى في كتابه الكريم باسمها لتكون دروسها الكثيرة سننًا وقوانينَ للطامحين ليكونَ لهم وجودٌ تحت الشمس في هذا الفضاء المتراكم بالنكسات والهزائم، ولكنَّني لن أتوقّف كعادةِ الباحثين في السيرة النبويّة مع مواقف الغزوة وتفاصيلها، بل أستحضرُ مشهدًا مسرحيًّا فريدًا وقعَ في صفّ جيشِ المشركينَ الذي كانَ على رأسه القائد الشّاب مالك بن عوف؛ هذا المشهدُ حوارٌ بينه وبينَ خبيرٍ عسكريٍّ متمرّس جاوزَ عمره مئةَ سنةٍ وفقدَ بصره لكنّه لم يفقد اتّقاد فكره وحدّة معرفته وتوهّج حرصه على قومه.

 

فجاءَ إلى ميدانِ المعركة، لا كما يفعلُ بعضٌ من خبرائنا الكرام إذ يمارسونَ أستاذيّتهم على الشّباب الثّائر من خلف الشّاشاتِ أو بفوقيّةٍ تبني سدودًا تمنع قبول كلامهم، وبعد وصولِ دريد إلى الميدان دار بينه وبينَ القائد العسكريّ الشّاب مالك بن عوف حوارٌ ماتعُ إضافةً إلى ما فيه من جميلِ بلاغةٍ وملاحةِ معنىً فإنّ كلّ قائدٍ شابٍّ يحتاجُ أن يقرأه لا سيما بزمن تفجّر فيه الاعتزاز بالأنا والتّقوقع على المعرفة الذّاتية المسفِّهةِ لخبرات الآخرين.

 

قدَّمَ هذا الخبير مشورتَه في قضيّة التدرّع بالمواطنين، وبيّنَ مخاطر التّحصّن بالجماهيرِ، وعواقب التخيّل الطفوليّ بكونِ النّاس عامل ضغطٍ على المقاتِل، ووصفَ الطفوليّة في تقدير الأعمال العسكريّة تخطيطًا وتنفيذًا بأنّها تليق براعي ضأنٍ لا بقائدٍ يتحمّل مسؤوليّة قضيته

سمع دريدُ أصوات النّساء والأطفال والحيوانات من غنم وإبل وبقر لكنّه بدأ بالسّؤال عن طبيعةِ أرض المعركة؛ فقال: بأي وادٍ أنتم‏؟‏ قالوا‏: ‏بأوطاس، قال‏:‏ نعمَ مجالُ الخيل!‏ لا حَزْنٌ ضَرس، ولا سهلٌ دَهس، ثمّ سأل: ما لي أسمعُ رغاءَ البعيرِ، ونهاقَ الحمير، وبكاءَ الصّغير، ويُعارَ الشّاء‏؟‏ قالوا:‏ ساقَ مالك بن عوف مع النّاس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فطلبَ دعوةَ القائد الشّاب على الفور وسأله: يا مالك، إنّك قد أصبحتَ رئيسَ قومك، وإنّ هذا يومٌ كائنٌ له ما بعدَه من الأيام، ما لي أسمعُ رُغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاءَ الصّغير، ويعار الشاء؟‏

 

فقال القائد الشّاب مالك‏:‏ سقتُ مع النّاس أموالَهم وأبناءَهم ونساءَهم، قال:‏ ولمَ ذاك‏؟‏ قال‏:‏ أردتُ أن أجعلَ خلفَ كلّ رجلٍ منهم أهلَه ومالَه، ليقاتِلَ عنهم؛ فأنقضّ به دريدٌ؛ أي: زجره كما تزجر الدّابة ـ ثم قال له واصفًا حالَه وفعلَه:‏ راعيَ ضأنٍ والله‏! ويحَ قلبي ما كانَ سيقولُ دريدٌ لبعضِ المغامرين بثوراتنا سياسيًّا وعسكريَّا وبأيّ وصفٍ كانَ سيصفهم؟!! ثمَّ تابعَ:‏ وهل يردُّ المنهزمَ شيء‏؟!‏ إنَّها إن كانت لكَ لم ينفَعك إلا رجلٌ بسيفه ورمحه، وإن كانت عليكَ فُضحتَ في أهلِك ومالك.

 

هكذا قدَّمَ هذا الخبير مشورتَه في قضيّة التدرّع بالمواطنين، وبيّنَ مخاطر التّحصّن بالجماهيرِ، وعواقب التخيّل الطفوليّ بكونِ النّاس عامل ضغطٍ على المقاتِل، ووصفَ الطفوليّة في تقدير الأعمال العسكريّة تخطيطًا وتنفيذًا بأنّها تليق براعي ضأنٍ لا بقائدٍ يتحمّل مسؤوليّة القضيّة التي يقاتلُ دونها، والنّاس الذين يعملُ لأجلهم.

 

ثمَّ انتقلَ دريدٌ للسؤالِ عن الحلفاء، فسألَ مالكًا: ما فعلت كعبٌ وكلاب؟‏ قالوا‏: ‏لم يشهدها منهم أحد، قال‏:‏ غابَ الحدُّ والجدُّ، ولو كانَ يومَ علاءٍ ورفعةٍ لم تغب عنه كعبٌ ولا كلاب، ولوددت أنّكم فعلتم ما فعَلت كعبٌ وكلاب، فمن شهدها منكم؟‏ قالوا‏:‏ عمرو بن عامر، وعوف بن عامر، قال:‏ ذانك الجذعان من عامر، لا ينفعان ولا يضران.

 

فكأنَّ دريدًا يخاطبُ قاداتٍ شبابٍ من ثوراتنا يسكرونَ بزبيبةٍ كلّما أتاهم وعدٌ بالدّعم من هنا أو هناك، ويغرقون بشبرٍ من وهم التّعاضدِ كلّما لمعَ برق ابتسامةٍ من ثغرٍ يخفي خلفَ ابتسامته سمًّا زعافًا، أو يحرّكونَ جحافلهم إن شمّوا رائحةً من زيفِ المناصرةِ الدّوليّة التي غدت سرابًا بقيعةٍ يحسبه الظمآنُ ماءً ولم يجديه يومًا شيئًا، أو أنّهم يعلّقون آمالهم الكبيرة على حلفاء صادقين ولكن لا وزنَ لهم فهم كما وصفهم دريدٌ لا يضرّون ولا ينفعون.

 

 ثمَّ عادَ دريدٌ ليؤكّد على نصحه المتعلّق بالتدرّع بغير المقاتلين والتعامل العاطفي مع القضايا العسكريّة فقال: يا مالك، إنَّكَ لم تصنع بتقديم البيضةِ بيضةِ هوازن إلى نحور الخيل شيئًا، ارفعهم إلى متمنع بلادهم وعليا قومهم، ثم ألقِ الصّباء على متون الخيل فإنْ كانت لكَ لحقَ بك من وراءك، وإن كانت عليكَ ألفاكَ ذلكَ وقد أحرزتَ أهلكَ ومالك.

 

ما بينَ دُريدِ اليومِ الذي لا يريدُ النّزولَ إلى الميدان وله ألفُ ألفِ حجةٍ يبرّر لنفسه فيها تخلّيه، وبينَ قاداتٍ من أمثالِ مالكٍ غرارةً ورعونةً فشلت جولاتٌ وسالت دماءٌ وتاهت شعوبٌ وانتكأ مستقبلٌ أريد له أن يكون زاهرًا فهل من تدارُك؟!

إنَّها محاولات جاهدة من الخبيرِ النّاصح لمنع الهزيمة، وتقليل حجم الخسائر، إلَّا أنَّ الرّعونةَ، وتوهّم الخبرة، والحرص على التصدّر، والشّعور بانّ الاستجابة للنّاصحينَ تقلّل المكانةَ، وتحيلُ الإنجازَ إلى غير القائد الشاب الفذّ وتخلّد غيرَ بطولاته في سفر المجد، هو ما منع مالك بن عوف ويمنع قاداتٍ من ثوراتِنا من إلقاء السّمع لنصح دريدٍ، بل يدفعهم الشعور بالتفرّد واحتكار الفهم إلى رفض دريدٍ واتهامه بالخرفِ وأنّه لم يعد قادرًا على مجاراة الواقع، وأنّه لا يدري المستجدّات، فسرعان ما يرتفعُ صوتهم بلسان مالك بن عوفٍ إذ صرخ في وجه دريدٍ: والله لا أفعل ذلك، إنّك قد كبرت وكبر عقلك ـ أي خرفت ـ  عندها لم يجد دريد بن الصّمّة بدًّا من الانكفاء على ذاته وإعلان اعتزاله بقوله: هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتني؛ وأنشد:

 

ياليتني فيها جذع * أخبّ فيها وأضع

أقود وطفاءّ الزّمع * وكأنّها شاةٌ صدع

 

وما بينَ دُريدِ اليومِ الذي لا يريدُ النّزولَ إلى الميدان وله ألفُ ألفِ حجةٍ يبرّر لنفسه فيها تخلّيه، وبينَ قاداتٍ من أمثالِ مالكٍ غرارةً ورعونةً فشلت جولاتٌ وسالت دماءٌ وتاهت شعوبٌ وانتكأ مستقبلٌ أريد له أن يكون زاهرًا فهل من تدارُك؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.