شعار قسم مدونات

الرّسالة الأخيرة، غالبا..

blogs - رسالة

"أكتب إليك رسالةً نظَّفَتْها التكنولوجيا من كثيرٍ ممّا كان يجب أن يظلّ عالقاً بها. خلّصَها المصحّحُ التّلقائيّ من أخطائي الإملائيّة، ولن ترَي فيها أثرا لما شطبتُ ومحوتُ وشطبتُ ومحَوت. أنا أكثر اضطرابا وفوضويّة ممّا توحي به هذه الكلماتُ المصفوفة بأناقة.

 

أليسَ غريبا أنّني أفشي لك اضطرابي؟ يُمضي البشرُ ساعاتٍ طوالا وهم يبتكرون أفضلَ نسخةٍ من أنفسهم لمن يحبّون، وأنا أتطوّع بتحطيم نسخة أفضلَ منّي قد توحي بها هذه السّطور المغزولة بعناية. على كلّ حال، هذه النسخة أفضل منّي بقليل وحسب.

 

لا أكتب لكِ لأخطَّ طريقا نحوَك، بل لأحاول جاهدا العودة منكِ.

لا أكادُ أذكرُ نفسي قبل أن حلّت فيكِ. لا يبدو ما قبلَها طريقا متدرّجا إليك، بل نُسَخاً باهتةً منّي كانت كلٌّ منها تمحو التي قبلَها بتفانٍ مُرعِب. حين صرتُك، بدا أنّه ما من احتمالٍ آخرَ ممكنٌ أصلا. ما كان قبلكِ ليسَ ضياعاً ولا خطأً. إنّه عَدَمٌ خالصٌ.

 

كم يبدو ساذجا أن أقول "أحبّك". حين أصبحَ لها معنى، كنتُ قد عبرتُني إليك. كان ما حلّ منّي فيكِ أكثرَ ممّا بقي فيّ منّي، فلا أدري مَن أَحَبَّ مَن. لكنّي "أحبّك".. أحبّك، من قبل أن يكونَ لها وجود، ومن بعد أن أصبحت تحصيلَ حاصل.

لا أدري كيف ما يزالُ "قبلك" حاضرا في اللغة. لولا أنّها كلمة حقيقيّة، لما شعرتُ أنّ لهذا الشّيءِ وجودا. لذلك فقط، لهذا الاحتمال اللغويّ الشاحب، أكتب. أريدُ أن أعودَ منك لأراك مرّة أخرى، أخيرة. هذا الوجودُ الكاملُ كثيفٌ حدَّ الرّعب. هذا الوجودُ الكاملُ أثقلُ من أن يحتملَ نفسَه. هذا الوجودُ الكامل يبدو اللقاء المُحتَّمَ مع العدم بعدَ أن يمضيَ كلٌّ منهما في اتّجاه، فيتّحدان حين تكتملُ دورةُ المطلَق.

 

يُراودُني شكٌّ يخلعُ الرّوحَ أنّ الفوتَ قد فات.

الكلماتُ التي وُلدَت على صفحة القصيدة تموتُ كلُّها لحظةَ يجدُ الشّاعرُ كلمتَه الهاربة. تزدحمُ في ذلك الموضع الصغير، موضعِ الكلمة، مئاتُ الكلِمات. تظلُّ كلُّها احتمالاتٍ ممكنة، فإذا ما التمعت الكلمةُ الكلمة، ماتَ كلُّ شيء في رجفة .. كأن لم يكن .. هكذا تبدو لي نُسخي القديمة منّي قبل أن أحلّ فيك. كونٌ من حيواتٍ لا تُحصى، ماتت في لحظة.

 

كم يبدو ساذجا أن أقول "أحبّك".

حين أصبحَ لها معنى، كنتُ قد عبرتُني إليك. كان ما حلّ منّي فيكِ أكثرَ ممّا بقي فيّ منّي، فلا أدري مَن أَحَبَّ مَن.

لكنّي "أحبّك". أحبّك، من قبل أن يكونَ لها وجود، ومن بعد أن أصبحت تحصيلَ حاصل. لا يشغلني المعنى قدرَ امتلائي بها. تبدو كلمةً خُلقَت لأقولَها لك وحسب. كلُّ مرّةٍ قيلت فيها قبلَ ذلك كانت تمرينا، تماما ككلماتِ القصيدة التي تموتُ كلُّها لحظةَ تولَد الكلمةُ الكلمة. كلٌّ مرة ستُقالُ فيها بعد ذلك ستكونُ صدى، تماما كمحاولاتي الخائبة لأعودَ إليّ منك.

 

يُرهقُني أنّكِ كلُّ ما أرى. ليسَ لأنّه ثمّةَ ما هو أجملُ منكِ، بل لأنّ فكرةَ أنّي أرى أجملَ ما في الوجود تُشعرُني أنّي كائنٌ خَطِر.

تخيّلي أنّي أعرفُ أكثرَ ما في الوجودِ خطَرا وسرّيّة. كيفَ لي أن أعيشَ بعدَ ذلك مطمئِنّا ولو لإطباقة عينٍ وَجِلة؟

إلى متى سيأتمنُني الوجودُ على هذا السّرّ؟ إلى متى سيثقُ في طاقتي على الكتمان؟ إلى متى ستمرُّ الرياح بجواري وتُحجِمُ عن اقتلاعي في آخر لحظة؟

 

"أحبّك". من أوّلي إلى آخرِك. "أحبّك". من حيثُ أبدأُ احتمالا، إلى حيث تنتهينَ أكثرَ ما في الوجود وجوداً. "أحبّك". قدرَ أملي الضّائع بأن أبقِيَ شيئا منّي خارجَ لعبة الاستغراقِ فيكِ، وقدرَ عجزي عن رؤية كيف سيكون كلُّ ما لم يكن.

أسيرُ وأنا أتلفَّت. كل زقزقة عصفور، كلُّ ورقة شجرٍ تترنّح، كلُّ حجرٍ صامت، كلُّ غيمة تولَدُ فجأة، كلُّ سيارةٍ حمراء، كلُّ رنينِ هاتِف، كلُّ طفلٍ يرتدي بنطالا بُنّيّا، كلُّ أرجوحة تتأوّه .. كلّ هؤلاء محاولاتُ اغتيالٍ محتمَلة.

 

لن أستغربَ أبدا لو كنتُ أسير ثم بدأتُ أرتفعُ عن الأرض مع كلّ خطوة، أو بدأتُ أغوصُ في الأرض مع كلّ خطوة. لا يمكنُ للوجودِ أن يأتمنَني طويلا. شيءٌ ما شديدُ الغرائبيّة لا بدَّ أن يحدث لي.

"أحبّك". من أوّلي إلى آخرِك.

"أحبّك". من حيثُ أبدأُ احتمالا، إلى حيث تنتهينَ أكثرَ ما في الوجود وجوداً.

"أحبّك". قدرَ أملي الضّائع بأن أبقِيَ شيئا منّي خارجَ لعبة الاستغراقِ فيكِ، وقدرَ عجزي عن رؤية كيف سيكون كلُّ ما لم يكن.

 

يتمنّى الحزانى أنْ يصحوا يوماً ليجدوا أنّ كلّ ما كان كان حلُما. أنا مثلَهم، غيرَ أنّي لستُ حزينا. أتمنّى ذلك لأختبرَ إمكانَ شيءٍ آخَر، إمكانَ وجودِ طريقٍ آخرَ للحلولِ فيكِ على الأقلّ.

ربّما كانَ كلُّ شيءٍ سيتغيَّرُ لو غيّرتُ صياغة سؤالي الأوّل لكِ، أو وصفي الأوّل لجمال عينيك، أو احتباسة أنفاسي يومَ رأيتُ أصابعك.

حتّى المرّاتُ التي أغضبتُكِ فيها تبدو جزءا من هذه المتاهةِ شديدةِ القدرةِ على أن تأخذَ بيدِ سالكِها، من هذا اللغزِ شديدِ الوضوح، من هذا الضّياعِ تامِّ الهداية.

ومن يدري عمّا يدورُ الآنَ في العالم بعد أن كان ما كان؟ ربّما تكونُ حربٌ كونيّة قد قامت، ربّما تكون المخلوقات الفضائيّة تحتلّ الكوكب، ربّما يكون فيروس شديد الفتك نجح في الهروب من معامل وزارة الدفاع الأمريكيّة.

 

ربّما ستُبعَثُ كلُّ حيواتي الممكنة من الاحتمالِ إلى الحياة وتتراقصُ معا في عرسٍ صاخب. ربّما أصبح جميعَ ما كنتُه معا، او جميعَ ما كان يمكنُ أن أكونَه معا، أو كلّ ما يستحيلُ أن أكونَه معا. إلى ذلك الحين، سأعيشُ بقاياي. وإلى ذلك الحين، وبعدَه، أحبّك."

ربّما يكون الكونُ كلّه قد انطوى في ثقبٍ أسود. تُرى هل سيذكرُ الكونُ تاريخَه بعد هذا الانطواء؟ أم هو مثلي، يمحو كلَّ نسخةٍ قديمةٍ منه ويطوي ذاتَه في في غَيابَةِ العدَمِ الرَّحب؟

 

"أحبّك". بعيدا عن لغتي، آخرِ ما تبقّى لي من وسيلة للرفض. ستنطوي هي الأخرى قريبا في صمتٍ أبديّ. لن يظلّ منّي ما يروي هذه الحكاية أو ما يسألُ هذه الأسئلة. ربّما ذلك هو الخلود. أليس مُثيرا أنّ هذه الكلمة تحملُ في ثناياها الأبَدَ والخمولَ معا؟

 

سأخلدُ فيكِ. أرى ذلك يقتربُ كلَّ لحظة. ربّما يكونُ ذلك أشبه بنومٍ هادئ مع أحلامٍ هنا وهناك، قد تكونُ هذه الرّسالة أحدَها. ربّما يكونُ ذلك أشبَه بعدمٍ كاملٍ وصمتٍ مُطلَق. ربّما ستُبعَثُ كلُّ حيواتي الممكنة من الاحتمالِ إلى الحياة وتتراقصُ معا في عرسٍ صاخب. ربّما أصبح جميعَ ما كنتُه معا، او جميعَ ما كان يمكنُ أن أكونَه معا، أو كلّ ما يستحيلُ أن أكونَه معا.

 

إلى ذلك الحين، سأعيشُ بقاياي. وإلى ذلك الحين، وبعدَه، أحبّك."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.