شعار قسم مدونات

عَظَّمَ اللّهُ أَجرَكُم

blogs - نزوح الأهالي في سوريا
مَا زلتُ أَذكُر، الجَمعَةَ العائلية على التِلفاز، الانتِفاضَة الثانية، أحداثُ أبراجِِ التِجارةِ في أميركا، أفغانِستان، سُقُوطُ بَغداد، تَفجِيرات عمان، الرُسُومات المُسيئة للرسولِ مُحمد صلى اللهُ عليهِ وسلّم، حُروبُ غزة،  العددُ المُخيفُ من الأَخبَارِِ العاجِلة الذي تنُقُلُهُ قناةُ الجزيرة، ذلِكَ التِلفاز الذي شَهِدَ نَكباتٍ لا حَصرَ لَها، لكّن الذي كان يُهَوِنُ مشاهِدَ الذُّل قليلاً، هو خُروجُ المُظاهَرات والمَسٍيراتِ في كافةِ أنحاءِ الدولِ العربيةِ والإسلاميّة، بل وحتى الأوروربية، حينهَا كانَت الشُعوبُ تُستَفَزُّ في عُروربتِها، فِي كَرامتِها، بَل وفي دينِها، وأَحياناً في إنسانِيتها، فكانَت تَكِسرُ جُزءاً من حاجزِ الخوف، وتخرج لِـتَجمَع شظايا كرامتها، كُنّا نرى قمماً عربية وعالمية تَنعقِدُ بشكلٍ عاجِل، لم تَكن تفعلُ أيّ شيءٍ مُهِم، لكنها على الأقل كانت تشعرُنا بخُطُورةِ الموقِف، رغم أنها ذِكرياتٌ أليمةٌ بعضَ الشيء، إِلا أنّها فيها شيئا من الجمال، فقد كانت حلاوةُ الرُوح للأمةِ العِربيةِ، كانَت الأنفاسَ الأخيرة.
لا يغيبُ عن ذِهني مشهَدُ مُحمّد الدّرة وهو يحتَمي بأبيهِ خائِفاً مِن رصاصِ الغدرِ قَبلَ أَن تصعَدَ روحَهُ مودِعةً مُستنقعَ الذُل والهَوان، وكيفَ توالت الإِحتِجاجاتُ والمُظاهراتُ في العالمِ العربي المطالبة بالثأرِ للدُرة، ولا أنسى جموع المُسلمين من عرب وأجانب وهي تصرخ بكل اللغات "إلا رسولُ اللّه"، وتشتمُ الدنِمارك وصحيفتها المسيئة، وحملاتٌ من كل حدب وصوب لتنظيمِ مُقاطعةِ المُنتجاتِ الدنماركية، المظاهرات الرافضة لحروب غزة الدموية، والقِممُ العربية العاجِِلة المُنعقِدة، المسيرات المُؤيدة لِحزب الله في حربِهِ على إسرائيل، أحداثِ سُقوطِ بغداد، والرفضُ العربي القاطع لكل دم عربي يسيل دونَ أي ذنب، كان لدى الشعوب العربية وجهة نظر واحِدة، عدو واحِد، بوصَلةٌ واضِحة، رغم أن الرؤية لم تكن واضِحة بما فيه الكفاية، لكن البوصَلَة، على الأقل…كانَت تَعمَل!

إذا جلستِ في أبسطِ مجلِسٍ اليَوم، وسألت بِكُل عِفوِيِة؛ من عَدوُّنا؟ سِتسمعُ أسماءَ دُولٍ أكثر من عدد الدول الأعضاء في هيئةِ الأُممِ المُتِحِدة، ولن تجد من لديهِ المِعرِفة أِو الجرأة لِيُخبِرَكَ أنَ أكبَر عدُوٍ للعربِي هُو نفسُه.

وإذا أخَذنا لمحَةً سريعة إلى واقِعِ اليوم، وأجرّينا مُقارنةً سَريعةً بِما سِبِقِ ذِكرُه، نجد أن حرب غَزة الأخِيرَة والتي أنهت ما تبقى من بنيةِ المدِينة التحتية، لم تحظَ بأي إنتقادٍ ذي ثِقل من أي جانِب، لِم نسمع عن أي رأي عامٍ عربي يرفُض هذا العدوِان العِشوائي على هذا الشعبُ العربي الأعزِل، لم نسمع عن قمة عربية، عن إجتماعاتٍ عاجِلة، حتى أننا إشتقنا إلى أن نِسمِع شجباً وإستِنكاراً من أي طِرِف، بل أصبحنا نرى من أبناءِ أمتِنا من يَصِف أهل غَزة بِالخَونةِ بل وحتى الإرهابِيين، ومنهم من يتِمنى لهم الموت والقتل، ونجِدُ بَعضاً آخر مِن أبناءِ نفس تلك الأمة العظيمة، يُوزِعون الحِلويات إحتِفالاً بِقصفِ الطيران الأمريِكي لِسورِيا، كما نَجِدُ أن قتلَ الناسِ في العِراقِ ولِيبيا واليِمن لم يَعُد أمراً ذا جللٍ، بِل أصبح من مُتطلباتِ الحَياةِ اليومية، كفنجانِ قهوةِ مُرّة، وأشبَه بدُخانٍ سَرطانِي يَنبعِثُ من سِيجارة مَحلِيةِ الصُنع.

ثُمّ جاءت إسرائِيل وأكمِلت المُعامَلة فأصدَرَت شَهادة وفاة الأُمةِ الإسلاميِة، وأزاحت تُربة القبرِ على مليارِ ونصفِ الِمليارِ مُسلِم، عندما أغلقت المَسجِد الأقصى ومنعَت إقامة صلاةِ الجُمعةِ فيه منذ إحراق جزء منهُ قبل قرابةِ خمسين عام، (وقبل ذلِك كانت صلاةُ الجُمعة تُقامُ ولم تنقطع أبداً)، تَوَقَعنا حينَها ردَ فعلٍ ساحِقٍ ماحِق، لكن ماذا جَرى؟ مسيرة في الأردن، إستنكارٌ رَسمِي من ثلاثة دولٍ عربية هي الأُردن وقطَر والكُويت، وباقِي الأمة العَظيمة؟ كُنتُ أتمِنى أن تُكونَ الإجابة هي "صمتٌ كصَمتِ القُبور"، لكن ظهرت لنا فئةٌ جديدةٌ من نفس هذهِ الأمة العظيمة لِتَنعتَ أهلَ القُدس بالإِرهابييِن، وتؤيّدَ إغلاقَ أُولى القِبلتين وثاني المسجِدين وثالثَ الحَرمينِ الشريفيِن، مع مَحافظةِ الأغلبية على صمتِها.

الفرقُ بين حالنا اليَوم، وحالنا مُنذُ أمدٍ قريب، أننا كان لدينا بوصلةٌ دقيقةٌ تتعطلُ أحياناً، أما اليوم فنحنُ كسِرنا البُوصلة لِتُصبِحَ ثلاثمِائةِ ألفِ قِطعة، أصبَحنَا لا نتفِق، أصبَحنا لا نعرف ما معِنى "الرأي"، ما معِنى "وجهَةُ النَظَر"، فاختِلافنُا تعدى اختلافَ اللَهجَة أو مخارِجَ الحُروف، اختِلافنُا أصبحَ وُجودِياً، فلا يوجَدُ عربِيٌ اليَوم لا يتمَنى زوال باقي العرب الذين لا يُعجِبونَهُ، فإذا جلستِ في أبسطِ مجلِسٍ اليَوم، وسألت بِكُل عِفوِيِة؛ من عَدوُّنا؟ سِتسمعُ أسماءَ دُولٍ أكثر من عدد الدول الأعضاء في هيئةِ الأُممِ المُتِحِدة، ولن تجد من لديهِ المِعرِفة أِو الجرأة لِيُخبِرَكَ أنَ أكبَر عدُوٍ للعربِي هُو نفسُه.

وِمِن هُنا تَم إلصاقُ نعيَ هذِهِ الأمة على جبينِِ كُل أبنائها، فانظُر إِلى جبينِ أي واحِدّ مِنا ستقرأُ التالي: "انتَقَلت إِلى رحمةِ الله تعالى الأُمة العربيةِ والإِسلامية بعدَ صِراعٍ طِويلٍ مَع الفقر والَجهلِ والجُوع والبِرد وِخيَمِ اللُجوء… وأسباب الوفاةِ أكثر من أن يحتِملها نَعيٌ، فلا تُكثرِواُ من الكَلام وادعوا لَها بَالرحمة". فَعّظّمَ اللّهُ أجرَكُم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.