شعار قسم مدونات

نصف مظلم.. نصف منير

blogs رواية

"نصف مظلمٍ نصف منير"، هكذا كانت حال إليف بينما هي تكتب لنا تلك الروايات. تُريك النور في سطرين، لتؤلّب الظلام عليك في السطرين التاليين. تكتب في لحظةٍ متهكّمةً معترضة، مُلحدةً، ثمّ تكتب راضيةً مستسلمة فتشعر أن قلبها جبلُ إيمانٍ ضارب بجذوره الأعماق! تكتب متجاوزة حدود الزمان، والمكان، واللغة، والعرق، والدين، والقانون.. تكتئب لكتابتها، وتكتب لكآبتها.. أسلوبها المميز في الكتابة هو ما يجعلك تعيش القصّة كأنّك كل شخصيّةٍ فيها .

ولكن..هذا أمرٌ خطيرٌ، أقول لمن لا يدرك أثر جناح رواية: فباستطاعة الكاتب -يا صديقي-أن يريك السمّ ويحدّثك عن خطر شُربه، ثمّ وبمهارة يسقيك إياه وأنت مبتسم .باستطاعته أن يعطيك دروساً عن الكفر، وعن الكفّار، ثمّ يخرجك من الدين حبواً خلف كلماته.. باستطاعته أن يغيّر التاريخ، الماضي والحاضر، وبالطبع لن يَسلم المستقبل من تأثير ما كتب..

ولذا.. اسمحوا لي أن أذكر كلام إحدى الشخصيات، تقول:
"ورغم أن الكتب قد تكون ضارة،  لكن الروايات أكثر خطورة؛ فقد تضللك مسالك القصّة بسهولة وتقودك إلى عالم القصص الذي يكون فيه كلّ شيء سلساً، وخياليّاً، ومفتوحاً على المفاجآت، مثل الليالي الظلماء في الصحراء، وقبل أن تشعر يمكنها أن تجرفك بعيداً وقد تجعلك تفقد الاتصال بالواقع".

لماذا يمررون أفكارهم في الرواية؟.. ببساطة لأن كاتب الرواية باستطاعته أن يقول: لستُ من قال ذلك إنما شخصية الرواية، ويتملص من آراءه.. كما في عالمنا العربي

فقد تقول لك الرواية -مضلّلةً إياك- مثلاً: أن القرآن كالنهر فله أعماق (باطنيات) وأن الصوفيّ وحده يغوص في أعماق تلك الباطنيات، ليصل -يا صديقي- إلى العمق الأخير وهو الذي لا يصل إليه إلا القلّة، وأن هذا العمق الأخير هو مراد الله، وأن النبي لم يبلّغ الرسالة لأنه لم يوصل مراد الله للناس . قد تقول لكِ الرواية: ما المشكلة في أن تمارسي الجنس مع أحد آخر طالما أن زوجك لديه علاقات غرامية؟.. خصوصا إذا ما كان الشخص الآخر صوفيّا.. لا تتردّدي، فهو يعرف معنى العشق الحقيقي. ملاحظة: ليس الموضوع هنا هجوماً على التصوف أو الصوفيّة،  إنما مناقشة طرح الرواية لا أكثر (فليس ذاك المراد). قد تقول لك الرواية.. لا بأس ببعض التفكك الأسريّ مقابل العشق.. لا بأس بالجحيم.. مقابل العشق. صدق من قال عن تلك الرواية: إنها كفرٌ لكن ليس حلواً إطلاقاً..

لماذا يمررون أفكارهم في الرواية؟.. ببساطة لأن كاتب الرواية باستطاعته أن يقول: لستُ من قال ذلك إنما شخصية الرواية، ويتملص من آراءه.. كما في عالمنا العربي هذا.. لكن.. لا، إليف شفق لم تفعل هذا. أظن-يا لظنّي-أن الكاتبة أحسنت اختيار موضوعها (التصوّف) واختيار اسم الرواية (قواعد العشق) فاتسعت رقعة روايتها، وانتشرت بسرعة، فعنوانها أيضا لافت وجميل، والذي إن كنت فتاةً.. لاقتنيته حتى لو أني لا أقرأ.. لكن إن كنتَ عزيزي القارئ تصدّق أن هذا هو الواقع، وأن ما جرى للأرمن هو ما قصّته عليك الكاتبة -وإن كان كذلك -، وأن ما تحدّثتْ عنه الكاتبة في رواية (شرف) واقع نعيشه -وإن كان كذلك في مناطق محدودة معيّنة. وأن الأفكار التي أوردتها الكاتبة في رواية (قواعد العشق) هي حقّ، وأن الله هو أنت، وأن القرآن نهر، وأن الناس لا تفهم مراد رب العالمين، وأن النبيّ عجز عن معرفة الله، وأن البسطاميّ عرفه.. فأعد التفكير في الأمر مجدداً.. أرجوك..

رغم إعجابي الكبير بأسلوب الكاتبة إلّا أنني أبغض بعض الأمور والتي أهمّها:
البعد عن الواقع، فمن قرأ رواياتها يجد أنها تتجاوز أحيانا إلى مواقف خياليّة تماماً، بل ومواقف تاريخيّة متخيّلة، لا أنكر احتمال حدوثها، لكن ليس هذا موطن الاحتمالات، فإنما تتحدّث وتناقش قضايا اجتماعيّة فكريّة وسياسية، ووصف قضيّة بمواقف تخيّليّة يُبعد الرواية عن الواقع كما يبعد القضيّة. ثُم إنّ إليف تُكثر من الخروج عن الموضوع خصوصا في روايتها شرف -والتي مع حليب أسود أفضل ما كتبت بنظري- تُكثر من البعد عن مجرى الأحداث وعن القصّة. كما أكثرت من التهكّم على لسان شخصيّاتها على الحكم من الحياة أو الحكمة من الشرّ ومن وجوده، أو حكمة الخالق، وفي أوقاتٍ.. التهكم على الخالق نفسه.

أيضا الروايات الثلاث (شرف واللقيطة وقواعد العشق) أبطالها مغتصِبين ومغتصَبين: فزليخة اغتصبها أخوها، وجميلة اغتصبها رجال من القرية، وبمبي زوجها يمارس الجنس مع عاهرة، وإيلا زوجها ينام مع عشيقاته أياما، وآسيا تمارس الجنس مع رسام كاريكاتير.. ثمّ إيلا تترك زوجها وتعشق صوفيا جوالاً.. إلخ. المشكلةُ أنه وكما ذكرت إليف محقّةً: "ارم حجراً في بحيرة، ولن يكون تأثيرها مرئيا فقط، بل سيدوم فترة أطول بكثير، إذ سيعكّر الحجر صف والمياه الراكدة، وسيشكل دائرة في البقعة التي سقط فيها، وبلمح البصر ستتسع تلك الدائرة، وتشكّل دائرة إثر دائرة… إذا سقط الحجر في بحيرة، فلن تعود البحيرة ذاتها مرّة أخرى "

لا تناقش الكاتبة مجرد قضيّة في رواياتها، إنما هي مجموعة لا تقلّ عن خمس إلي ست قضايا، وتزيد.. فمثلاً: في حليب أسود: الأمومة، الزواج، الاكتئاب، التناقض، الأم الكاتبة والحمل.. الخ
لا تناقش الكاتبة مجرد قضيّة في رواياتها، إنما هي مجموعة لا تقلّ عن خمس إلي ست قضايا، وتزيد.. فمثلاً: في حليب أسود: الأمومة، الزواج، الاكتئاب، التناقض، الأم الكاتبة والحمل.. الخ

وقد كانت رواياتك "الرائعة" يا إليف -للآسف -كانت حجارةً متهكّمةً متشككةً، وسط بحيرة إسلاميّة، ولربّما للأسف أيضا ابتلع بعض أسماك هذه البحيرة حجارتك ظانّين أنها طعام.. لا أعرف السبب الذي يجعل الروائيين يتهكّمون في قضايا كهذه؟! أرجوكم أخبروهم، أن "التخبيص" في القضايا الفكريّة.. ليس مجالاً للعبث رجاء، وأن من أراد أن يناقش فليناقش بحكمة.. أرجوكم. المشكلة أن القرّاء (وغالبا الكتّاب أيضا) بطبيعة الحال لا يدركون ما ستؤول إليه الأمور، نتيجة الطرح العشوائي العبثي الغير منظم، ولا المستند إلى شيء، خصوصا إن كان "قارئ الروايات " يصدّق كلّ ما يقرأ، وإن وجّهنا نقداً فكريّا لكاتب مشهور أو كاتبة محبوبة ..وجّه إلينا اتّهامات وظنون عجيبة!، اتهامات نابعة عن عاطفة قارئ رواياتٍ حسّاس..

صحيحٌ أن الكاتبة إليف لا تستطيع التحكم بمن يقرأ رواياتها، لكن:
إن قصائدي هي صدى مخيّلتي. إنني أكتبها، وأنشرها، لكنني لا أستطيع أن أتحكم بمن يقرأه أو ما هي نواياه. إنني أفهم تلك المعضلة تماما، لكنك تستطيع أن تتحكم بكلماتك، فأنت الذي يكتبها، أنت الشاعر.. "فهي من يتحكّم بتلك الكلمات.. وبتلك القواعد أيضا. على أي حال-بنظري-لا يرفع الاستهزاء بمقدّسٍ (وأقصد مقدّساً حقّ) من قيمة رواية حتى وإن نالت أرفع المراتب وأعلى الجوائز، فكيف إذا كان أقدس مقدّس؟!

لا تناقش الكاتبة مجرد قضيّة في رواياتها، إنما هي مجموعة لا تقلّ عن خمس إلي ست قضايا، وتزيد.. فمثلاً: في حليب أسود: الأمومة، الزواج، الاكتئاب، التناقض، الأم الكاتبة والحمل.. الخ. وفي الحقيقة تستحقّ إليف أن تكون مع الطبقة الأولى من الأدباء. الترجمات جيّدة لا بأس بها، لكن قد تكون الترجمة أحيانا غريبة فلا تستطيع فهم المعنى المُراد للجملة ومبتغى الكاتبة وهذا موجود لكنها قليل، خصوصا في رواية قواعد العشق. لكنني روائية فضوليّة، يلفت نظرها كلّ شيء" (إليف شفق) .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.