شعار قسم مدونات

السعادة.. كذبتنا الصادقة

blogs - رجل تعيس
يأتي الإنسان إلى هذا العالم موسوما بالنقص، فترتسم طريقه منذ البداية كصيرورة دائمة لتجاوز هذا النقص على طريق بلوغ الكمال، والذي وإن كان بطبيعة الحال مستحيل التحقق فإن توخيه يبقى مطلبا حياتيا من صميم الطبيعة البشرية، تلك إذن هي الغاية الكبرى للخلق، غاية الارتقاء لإكمال كياننا وذلك عن طريق التحسن الأخلاقي والروحي، وحده الكفيل بوضع بني البشر على سكة الترقي من المحدود إلى اللامتناهي ومن الفاني إلى الباقي ومن البهيمي إلى الإنساني، ومن ثم تحصيل سعادة العيش. بيد أن هذه الغاية المثالية أبعد من أن تكون مفروشة بالورود وإنما بالكثير من المعيقات التي تحولها إلى هدف طوباوي، حين يختار هؤلاء البشر طرقا أخرى لبلوغ السعادة، طرق تحيل الأخلاقيات العليا إلى ما يشبه الجزء الظاهر من قطعة الجليد الذي يخفي جبلا من الاستعباد للملذات البربرية والمادية.

لعل أكبر من يروح ضحية في ظل النسق الوجودي هي القيم العليا، فهذا البحث الأناني واللاواعي عن التحقق الخارجي يضيع على أصحابه فرصة النماء الداخلي.

ما من شك أن فكرة السعادة ترتبط ارتباطا وجوديا بالإنسان، وقد كان الأمر كذلك طيلة مراحل تاريخه المديد، بداية من الحقب الأكثر بدائية إلى أكثرها تحضرا، دوما ما شغلت غاية السعادة فكر وسلوكات الكائن البشري في بحث سرمدي عنوانه البحث عن تعظيم اللذة وإلغاء الألم، ولئن كانت محددات السعادة لدى الإنسان البدائي محكومة بحكم بنيته الفكرية وظروفه المعيشية بطابع حسي محض يمكن وصفه بالبهيمي، إلا أن الارتفاع بالذات لدى هذا الكائن نحو مستويات أعلى من العقل مع التطور الزمني كان يفترض أن ينعكس بالارتقاء بمستوى محددات السعادة لديه، الأمر الذي لم يكن بهذه البداهة، وذلك لأن الرقي الحضاري الذي تسلقت مدارجه البشرية كان له وجه آخر وهو التقهقر على المستوى القيمي الذي ظل يكبح مهمة الإنسان في إكمال روحه، وهو يرزح تحت تأثير نظام اجتماعي مصمم -من قبل من يديرون زمامه- بشكل يعمل على برمجة أدمغة الناس لكي يقوموا ميكانيكيا بوظائف اجتماعية تهمل أي نوع من التدريب الأخلاقي، كل هذه المعطيات جعلت حتى السعادة تكتسب مفهوما لاواعيا ولاذاتيا يتحرك حسب توجيهات قسرية ووفق قوة ناعمة، تحدث فعلها في سياق سلسلة ضخمة من التوجيه والدعاية والإعلان، ما تفتئ تبث رسائلها الإيحائية التي تؤثر على عقول الجماهير ومشاعرهم وعلى صناعة آرائهم.

لنأخذ التلفزيون كمنموذج لهذه الوسائل التوجيهية، لا للحديث عن سلطته على الجماهير والتي لا يختلف حولها اثنان، وإنما فقط للفت الانتباه لواحدة من الظواهر التي ظهرت فيه في السنوات الأخيرة، لما تحمله من أهمية في موضوعنا، وهي تلك المسابقات التي تقترح على المشاهدين أسئلة سهلة أو إرسال رسائل sms تعِدُهم من خلالها بجوائز مغرية، فتجعلهم يتصورون دون وعي أن الحياة عبارة عن شجرة خيالية يمكن أن نقطف منها السلع والخدمات دون جهد، وهو ما يؤدي لدى الفرد إلى حالة من التساهل الذي يدعوه إلى التملص من ضرورة إجهاد إرادته فيصبح فريسة سهلة للإغراءات في خضم بحثه عن أهون طرق الكسب، وكل ذلك ينخرط ضمن نسق السعي خلف الإشباع الحسي على حساب أي تهذيب أخلاقي وروحي، وهو ما يجعل الجماهير مستلبة لا ترى في العالم سوى سوق في شكل فردوس اصطناعي للتسلية والمتعة، أعجب مفارقاته، أنه بدل تحقيق الإشباع يخلق مزيدا من الإحباط والاكتئاب.

يصبح تسويق صور الامتلاك بشتى أنواعه غاية لإيهام الحشود لا لإرضاء الذات، مما يحول الحياة إلى مقبرة للأرواح يسقط الناس فيها ضحايا للغول الاجتماعي الذي يغذونه بأنفسهم، والذي يجردهم دون شفقة من جوهرهم الخاص.
يصبح تسويق صور الامتلاك بشتى أنواعه غاية لإيهام الحشود لا لإرضاء الذات، مما يحول الحياة إلى مقبرة للأرواح يسقط الناس فيها ضحايا للغول الاجتماعي الذي يغذونه بأنفسهم، والذي يجردهم دون شفقة من جوهرهم الخاص.

التيار الاستهلاكي الجارف يجعل من نمط الملكية المادية هدفا لتعميق الإحساس بالكينونة، إنه نظام اجتماعي يعلمنا أن نُقَيم الناس بما يملكون وليس كما هم، فالمهم هو "الحيازة" لا الكينونة، غير أن هذا الاقتياد اللاشعوري الناتج عن هوس امتلاك الأشياء يصبح تجربة من الضروري تكرارها مرارا لترويع أشباح الوحدة والقلق، في ما يشبه حال مدخن الماريجوانا الذي عندما يعبر هذه العتبة يصبح متطلعا إلى بلوغ عتبات أخرى، هنا يصبح هذا المستهلك المطيع كائنا آليا، لا حرية له في اختيار مصيره، بل هو مستلب في انصياع تام لأوامر الإعلان والدعاية، التي تستدرجه لتبديد وجوده في مطاردة السرابات والأوهام.

حتى لا يعتبر كلامي هجوما ناقما على الملذات الحسية ودعوة سريالية للزهد فيها أقول إنني لا أنكر قيمة المال وامتلاكه وأهميته في الحياة، لكن إشكاليتنا هي مع تحوله إلى هاجس.

ولعل أكبر من يروح ضحية في ظل هذا النسق الوجودي هي القيم العليا، فهذا البحث الأناني واللاواعي عن التحقق الخارجي يضيع على أصحابه فرصة النماء الداخلي نحو مستويات أعلى من الكمال الأخلاقي والروحي، وفي هذا الإطار، يجد معظم البشر في المعايير الأخلاقية واجبا مزعجا يشكل التعايش معه عبئا ثقيلا، لأن دماغ الفرد حين ينتمي لذلك الحشد المُنمَّط فذلك يحرمه من التصرف بطريقة أخلاقية حقا، لأنه يفتقد لحرية التفكير وبالتالي تصبح الأخلاق هنا شكلا من أشكال الالتزام الصوري عند هؤلاء البشر الآليين، الذين ومهما أظهروا من شعارات ونوايا خيرة فستبقى الرذيلة والفساد هي "القيم" الأكثر شيوعا فيما بينهم في سياق تكييف دائم للمعايير الأخلاقية، كوسيلة لتحصيل اللذة الحسية التي تسلب العقل وتهزم الروح.

وفي ظل هكذا وضع يصبح الإنسان مجرد قطعة ضئيلة جدا في آلة ضخمة أو داجن داخل حشد كبير خامل، بدل أن يسلك درب الارتقاء الروحي، يفضل تلقي الأوامر داخل قطيع يكرر الطقس الوجودي نفسه جيلا بعد جيل، من خلال الخضوع لإملاءات لاواعية وملزمة تحرمه من القدرة على الاختيار بكامل الاستقلالية، لا فيما يخص السلع المادية فحسب بل حتى الأفكار والقيم، بما يحوله إلى نصف إنسان هاجسه الدائم هو السباحة مع التيار خدمة لمصالح صانعي هذا التيار والذين أدركوا أن السيطرة على إرادة الآخرين وتوجيه سلوكهم يعد استراتيجية تؤمن موردا لا ينضب للسلطة.

وحتى لا يعتبر كلامي هجوما ناقما على الملذات الحسية ودعوة سريالية للزهد فيها أقول إننا لا ننكر قيمة المال وامتلاكه وأهميته في الحياة، لكن إشكاليتنا هي مع تحوله إلى هاجس تأخذ الصورة فيه شكل قناع متكلف، يخفي إنسانا ضئيلا لم ينجح في تصعيد شهواته الوضيعة حتى ينجح في العيش بلغة كينونته، إنسان كزهرة مهيبة تنتهي إلى الزوال لأنها تختنق بأعشاب الابتذال والفظاظة والمادية المتبلدة، إنها حالة تظهر كهوس يحيا المرء فيه لا من أجل نفسه وإنما من أجل صورته ومن خلالها، هنا يصبح تسويق صور الامتلاك بشتى أنواعه غاية لإيهام الحشود لا لإرضاء الذات، مما يحول الحياة إلى مقبرة للأرواح يسقط الناس فيها ضحايا للغول الاجتماعي الذي يغذونه بأنفسهم، والذي يجردهم دون شفقة من جوهرهم الخاص، ويقدم لهم بدلا منه أوهاما وخيالات تمنعهم من ملاحظة موت ذاتهم الحقيقية.

وهكذا تبدو مهمة بلوغ السعادة بالنسبة للنوع البشري، مهمة عسيرة وشديدة التعثر مهما بلغ من مدارج الرقي الحضاري المادي، ذلك أن هذا الرقي يقابله تقهقر إنساني قيمي يجعل القلق شعورا ملازما لهذا البدائي المتحضر أو الإنسان-الحيوان، الذي لن يهنئ ويسعد ما لم يرقى لمرتبة الإنسان-الإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.