شعار قسم مدونات

"غوانتنامو قصتي".. فرصة عمل

blogs السجن

بعد مُضيّ نحو شهر في عنبر شالي تولت استجوابي مجموعة جديدة من المحققين بملابس مدنية، وكان أسلوبهم أكثر لطفاً، وعرَّفوا أنفسهم بأنهم من الاستخبارات البريطانية. سألوني عن أشخاص لا أعرفهم وعن بعض الذين قابلتهم في بريطانيا إن كنت زرتها، فأخبرتهم بأنني لم أزر بريطانيا قط، فكانوا يسألونني عن أشخاص موجودين هناك لا أدري عنهم شيئاً ولست على علم بوجودهم أصلاً. ثم سألوني عمن قابلتهم أثناء عملي في قندهار في أفغانستان، وما إذا كان بينهم بريطانيون. سألوني أسئلة كثيرة، منها أسئلة عن أصهاري في أذربيجان.

 

ثم جاءني أحد الأشخاص وقدم لي نفسه بأنه عربي من لبنان يحمل الجنسية الأمريكية. قدم نفسه باسم الدكتور فادي، وقال إنه يحمل دكتوراه في الإعلام وهو متخصص في هذا المجال، وأنه جاء من واشنطن خصيصاً لمقابلتي والتحدث معي. قال إنه لا يريد أن يحقق معي وإنما هو حريص كل الحرص على الحديث عن قناة الجزيرة، ويريد إجابات عن أسئلة مثل: كيف نجحت الجزيرة؟ وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه الآن؟

 

جلسنا جلسة حوارية عبرت فيها عن وجهة نظري. قلت: إن قناة الجزيرة نجحت لثلاثة أسباب:

إنك تعلم أن كل قناة موجهة تحكمها خطوط حُمر متعددة لا تستطيع أن تتجاوزها ستفشل، في حين أن الجزيرة كانت قناة لا تحدها خطوط حمراء، وتمتعت بروح تخصصية تحمل مهنية عالية في تناول الأخبار.
إنك تعلم أن كل قناة موجهة تحكمها خطوط حُمر متعددة لا تستطيع أن تتجاوزها ستفشل، في حين أن الجزيرة كانت قناة لا تحدها خطوط حمراء، وتمتعت بروح تخصصية تحمل مهنية عالية في تناول الأخبار.

ـ أولها: أنها بدأت بكوادر متدربة، كانت هذه الكوادر أصلاً تعمل في "بي.بي.سي" ـ القسم العربي في لندن، ولهم خبرة طويلة في مجال الإعلام.

ـ والسبب الثاني: هو الإمكانات المادية المفتوحة التي وجدتها القناة، والتي ساعدتها على أداء رسالتها.

ـ والسبب الثالث: وهو الأهم، أن القناة وقفت على أرضية دعم معنوية قوية ووجدت هامشاً من الحرية كبيراً وعلى ضوء هذه الحرية كان النجاح.

 

قلت له: إنك تعلم أن كل قناة موجهة تحكمها خطوط حُمر متعددة لا تستطيع أن تتجاوزها ستفشل، في حين أن الجزيرة كانت قناة لا تحدها خطوط حمراء، وتمتعت بروح تخصصية تحمل مهنية عالية في تناول الأخبار، ما جعلها المصدر الأهم للخبر الصادق لعشرات الملايين عبر العالم.

 

هذه الميزات أضافت أسلوباً جديداً إلى الإعلام في منطقة الشرق الأوسط، أخرج الناس من دائرة الأخبار المملة وكليشيهات الإعلام الرسمي. الجزيرة تركز بحرفية ومهنية عالية على متطلبات المشاهدين، متجاوزةً الخبر المحلي الذي لا تتناوله إلا بقدر أهميته عالمياً. كما أن الجزيرة غطت الاحتياجات المختلفة بتعدد النشرات والبرامج، وبتعدد مصادرها بمساعدة مكاتبها المنتشرة عبر العالم.

 

كذلك، قلت له: إن الجزيرة كانت من أولى القنوات التي غطت المعارك، خصوصاً حرب الخليج الثانية، وكذلك الحرب الأفغانية، فأشعرت المشاهد بحضورها المميز وبما تقدمه له مما يعكس تجاوز الإعلام الغربي والتفوق عليه في ساحات ظلت حكراً عليه فترة طويلة من الزمن، بل إن الجزيرة تحولت مصدراً لا غنى عنه.

 

تحدثت مع اللبناني المزعوم عن هذه الأمور، فشاركني في كثير من وجهات النظر، وأضاف أشياء كثيرة، وقال لي: نستطيع أن نقول في نهاية الحديث ـ الذي استمر أكثر من ساعتين ـ إن الجزيرة وضعت قطر على خريطة العالم. وقالي لي أيضاً: من الأشياء التي سأقولها لك، عندما تخرج ستجد أن الجزيرة فرخت قنوات كثيرة سارت على دربها، ثم غادر.

 

بعد هذا اللقاء بوقت قصير استدعوني للتحقيق وأخذوني إلى مكان خاص، خاص جداً بمعايير "غوانتانامو"؛ فقد أدخلوني إلى غرف فيها مجلس وتلفاز وطاولة مملوءة بالجرائد والمجلات، وعلى الجدار لوحات لمدينتي وصور لمكة والمدينة وسجادة للصلاة ومصحف كبير. غرفة توحي تماماً بأنك لست في مكان تحقيق. جلست في تلك الغرفة، وبعد هنيهة دخل علي رجل في العقد الخامس من عمره فيه سمرة خفيفة، متوسط القامة شعره منساب، فيه بياض، حليق الوجه، هادئ في كلامه وتحركاته، تلمس ذكاءً في تصرفاته، لطيف في تعامله أشبه في ملامحه بالممثل المصري عمر الحريري.

 

فيما بعد عرفت أنه يدعى ستيفن رودريجنس، كوبي الأصل أمريكي الجنسية مخضرم في مجال الاستخبارات. كان يعمل في منتصف الثمانينيات في ألمانيا الغربية حيث كان يحقق مع الفارين من ألمانيا الشرقية إبان الحرب الباردة، ثم يحوِّلهم جواسيسَ يقوم بتجنيدهم وإرسالهم مرة أخرى إلى ألمانيا الشرقية، ثم إلى الدول الدائرة في فلك الاتحاد السوفييتي آنذاك، فكانت مهمته التحقيق مع أولئك وتجنيدهم.

بتلك الكلمات بدأ حديثه لي، وقال إن هناك فرصة كبيرة أمامك حتى تتغير حياتك تماماً. هناك فرصة لك للعمل، وهذا العمل سيغير مسار حياتك، ليس فقط لك بل لأسرتك أيضاً، فكر فيما قلته لك حتى نلتقي الأسبوع المقبل.
بتلك الكلمات بدأ حديثه لي، وقال إن هناك فرصة كبيرة أمامك حتى تتغير حياتك تماماً. هناك فرصة لك للعمل، وهذا العمل سيغير مسار حياتك، ليس فقط لك بل لأسرتك أيضاً، فكر فيما قلته لك حتى نلتقي الأسبوع المقبل.

حقاً قابلني مقابلة لطيفة وقالي لي: أنا قابلت الدكتور فادي، وقال لي إن 345 ـ وهو رقمي ـ إنسان متفتح وبدأ يمدحني وأردف: لقد جئت إليك في مهمة ليست مهمة تحقيق. سأعرض عليك أمراً، وقبل أن أعرض عليك هذا الأمر يجب أن تفكر في هذه الكلمات التي سأقولها لك. قال: "إن في حياة الإنسان تياراً إذا استُغلّ عند المد قاد للحظ والغنى، وإذا ما أهدرت الفرصة تكون رحلة الحياة شاقة ومحكومة بالفشل، وفي مثل هذا البحر الهائج نبحر الآن، فإما أن نستغل التيار حيث يخدمنا المد وإما أن نخسر الرهان".

 

بتلك الكلمات بدأ حديثه لي، وقال إن هناك فرصة كبيرة أمامك حتى تتغير حياتك تماماً. هناك فرصة لك للعمل، وهذا العمل سيغير مسار حياتك، ليس فقط لك بل لأسرتك أيضاً، فكر فيما قلته لك حتى نلتقي الأسبوع المقبل. وأعطاني المجلات الموجودة في الغرفة، كانت جريدة الشرق الأوسط ومجلات مصرية وكان قد مضى نحو أسبوعين على صدورها. كانت بالنسبة إلي شيئاً عظيماً، لأنني لم أقرأ ولم أسمع أخباراً منذ قرابة سنتين، فأمسكت الجرائد وبدأت أتصفحها على عجل، وكنت أقرأ العناوين فقط.

 

قرأت أسعار العملات وانتقلت إلى أسعار البترول، فأسعار الذهب، فالشركات، فالأخبار الاقتصادية والرياضية… كنت أقلب الجريدة بشغف، ثم المجلات، أتصفح المواضيع والتعليقات والأخبار، وأصبحت في حالة يعجز لساني عن وصفها. كان همي الأكبر أن ألتهم أكبر عدد من الأخبار حتى أروي بها ظمئي وأنقلها أيضاً إلى الأسرى الموجودين معي. كان ذلك قبل رمضان الأول الذي قضيناه في جزيرة غوانتانامو.

 

عدت إلى الزنزانة "عنبر" وكان نزلاؤها من العرب عكس زنزانة "ليما" حيث كنت بجوار الأفغان، وكان التواصل معهم منعدماً لجهلي بلغتهم، ما سبب لي مشاكل نفسية؛ إذ لم يكن بجواري من أستطيع التحدث إليه والتواصل معه بسهولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.