شعار قسم مدونات

على أعتاب الثلاثين في شهر الانقلابات

blogs رابعة

على أعتاب الثلاثين في شهر الانقلاب وليلة المذبحة(1) هي ذكرى الميلاد، لا توجد ذكرى أشد بؤسًا وآلمًا من مشاهد الدماء والأشلاء لتطارد من رآها وعاشها طيلة سنوات عمره فلا يستطيع محوها أو نسيان تفاصيلها. 

يحمل الكثيرون من حولي مشاعر بغض وكراهية لشهر يوليو لما يحمله من ذكريات مؤلمة شديدة الظلمة، ويحملونه أكثر مما يحتمل ربما، لا تصيغ الأيام ولا الأشهر أحداثها، الشعوب هي من تفعل ذلك فيصبغون الأيام بالبهجة أو بالسواد الحالك، لا تحملونا ألمًا فوق آلامنا، يكفي ما شهدناه من مذابح، ويكفي تلك الغصة الدائمة في الحلوق عند تذكرها. 

تمر الأعوام سريعًا هذا ما يُقال دائمًا عند ذكر العمر، لكن لم يذكر أحد أنه قد سُرق منه عمره وأحلامه وأمست سرابًا يراود حنينه القلب على حين غرة فلا يملك العقل سوى التوقف للحظات كي يسد غزو الذكريات المؤلمة، ها أنا على مشارف عامي الثلاثين يدور في رأسي شريط الذكريات الخاص بالأربع سنوات العجاف الأخيرة، كيف قتلت أحداثها ما تبقى لدي من أمل وتفاؤل ورغبة في تغيير الواقع للأفضل، فأصبحت النصيحة الدائمة لمن حولي أن يهربوا من ذلك الوطن الذي لم يعد يطيق وقع أقدامنا بين طرقاته ولا اختلاف أحلامنا وأمنياتنا عن بقية أفراد القطيع فأستباح من يحكموه ومن هلل لهم من قاطنيه أعمارنا ودمائنا، لوطن جديد يعاملهم كبشر لهم حقوق وكرامة وحد أدنى من التعامل الإنساني ضن به ذلك الوطن علينا. 

undefined

لقد أمسيت أكثر هدوءًا وأكثر حدة وشراسة في الوقت ذاته، لا أقبل النقاش في قناعاتي ولن أغيرها في سبيل إرضاء أي شخص أيًا كان، ربما أحتد أحيانًا وأتطرق لنقاش مع من أعرف، وأصمت أحيانًا أخرى كثيرة في وجه نقاشات دخيلة ولكن هذا لا يعني أني قد تقبلت ما يقال لي، بل هو فعل يعني أنه يمكن أخذ ثرثرتك والذهاب بها بعيدًا لأنها لن تجدي نفعًا معي ولن تجعلني أقر بصواب ما تقول، تقليص العلاقات والأمنيات للحد الأدنى هو السبيل الذي فرضه الواقع علي وعلى من حولي، أصبحت أقصى أحلامنا تتلخص في خروج المظلومين من غياهب المعتقلات، وجمع شمل الأحباب في أي أرضٍ كانت بعيدًا عن ذلك القُبح والظلم وتلك الدماء، ولا ترف في أن نحلم بالعدل ولا القصاص هنا. 

أصبح العيش على التفاصيل الصغيرة السعيدة هو ما يبهجني، لا أستطيع أن أنظر لأبعد من ذلك، لن تحمل الصورة الكبيرة سوى المزيد من الألم وفقد الأمل، تلك التفاصيل التي تجعلني ممتنة كثيرًا لعائلتي لوالدي ووالدتي بقدر ما احتملاني ولم يحملا معاول التهذيب لتقويم أفكاري ومعتقداتي برغم الاختلاف الكبير بيننا، بالإضافة أنهما لم يمارسا سلطتهما الأبوية لمنعي من القيام مما أريد يومًا اللهم إلا مرات قليلة معدودة وكان ذلك المنع بدافع الخوف والإشفاق لا التسلط والرغبة في المنع، لأخوتي وزوجاتهم لمحاولاتهم المستمرة لمشاركتي فيما أفعل وسؤالهم الدائم عني، ولأبناء أخوتي أكبرهم تلك الصغيرة التي كنا نحملها منذ بضعة أعوام والتي لم تغير قط من عاداتها في البحث عني عقب تجاوزها لباب المنزل لتأتي إلي مبتهجة محيية وكأنها رأت شخصًا عزيزًا تفتقده، والصغرى التي لم تكمل عامها الثالث بعد عندما تأتي إلي مبتسمة متلعثمة لتحدثني وتقص علي بعض قصصها الطفولية، وللأولاد الثلاث الذين يذكروني بأشقائي عندما كنا صغارًا. 

ممتنة لصديقاتي المقربات على قلة عددهن إلا أنني الآن أوقن أنهن أفضل من مئات لا يعني وجودهن شيئًا سوى عدد يضاف لخانات المعارف الافتراضيين، رفيقات الأحلام والآمال والأعمال المشتركة فيما مضى حتى أمست خيبات أمل نتقاسمها ونحن نضحك على سذاجتنا وقلة حيلتنا في وطن جعل منها جرائم لا يجب أن تمر دون عقاب رادع ووأد لتلك الشرور وحامليها حتى ينعم حاكموه ومرؤوسيهم بالأمن والأمان. 

أطلب من الزمن أن يتوقف ويترأف بحالنا ويقف لبضعة أشهر على الأقل حتى نستطيع أن ندرك حجم الهوة التي سُحقنا داخلها، وندون ما حدث من قهر سرق منا أعمارنا والكثير من الرفاق والأحلام

على أعتاب الثلاثين أدرك تمامًا أن ما فات لا يمكن استرجاعه وأن من رحلوا لن يعودوا وإن ظللت أهاتفهم وأحدث صورهم، تعلمت أن من الحكمة أحيانًا أن أترك الزمن ليكشف لي ما كنت أجهله، وأن التسرع ليس دائمًا محمود العواقب، وأن الزمن كفيل بمداواة بعض الندوب، أوقن الآن أن ما أصابني لم يكن ليخطئني وأن ما مررت به هو أكثر ما يصنعني وليست تلك الخبرات المبتسرة التي أستمع إليها في المحاضرات والمواعظ، وإني حتى وإن كُسرت لبعض الوقت قصر أو طال لسنوات فإنني حتمًا سأجد طريقة ما للنهوض مجددًا إن أردت ذلك، وأنني ربما تحت وطأة الظروف سأضطر للتخلي عن بعض الأشخاص والأحلام، وأن من علامات النضوج ألا أقف عند ذلك كثيرًا فالخاسر الوحيد هو أنا، فهذا لا يعني نهاية العالم حتى وإن رأيته كذلك، فالعالم لن يقف حدادًا على حزني الشخصي ليربت على كتفي مواسيًا. 

وبالرغم من يقيني التام بأن الزمن لن يعود ولن يتوقف فإني أطلب منه أن ينظر إلى ما يحدث لي ولأقراني ممن ينتمون لفئتي العمرية في بلدان الربيع العربي سابقًا ويترأف بحالنا ويقف لبضعة أشهر على الأقل حتى نستطيع أن ندرك حجم الهوة التي سُحقنا داخلها، وندون ما حدث من قهر سرق منا أعمارنا والكثير من الرفاق والأحلام، فلا أقل من أن نقص ما حدث معنا لعل من يأتي لاحقًا يُدرك أننا حاولنا ولكن التفسير الوحيد الذي نملكه هو أن المؤامرة كانت أكبر منا جميعًا ودفع لها ولمنفذيها مليارات الدولارات، فيلتمسوا لنا بعض العذر ولا يلعنونا كما نلعن نحن باكين قهرنا وعجزنا وقلة حيلتنا الآن. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مذبحة المنصة 27/7/2013، وقد بدأت باعتداءات وحصار قوات الشرطة مدعومة بمجموعات من الجيش وقناصته للمعتصمين العُزل بطريق النصر ليلة 26/7/2013.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.