شعار قسم مدونات

سلطة أوسلو من مشروع الدولة إلى مطاردات فيسبوك

مدونات - الشرطة الفلسطينية
"الحرية هيَ حرية القول أنّ اثنين واثنين يساويان أربعة، فإذا سُلِّم بذلك سار كلّ شيء آخر في مساره السليم"، إنّه جورج أورويل مجدداً، والعبارة السابقة مُأخوذة عن روايته 1984، وهذه العبارة هيَ دائماً أوّل عبارة تخطر على بالي كلّما لاحت على ذهني موضوعة "حرية التعبير"، لأنني أجد أنّه يقع في متنها لبّ هذه الحرية وخلاصتها، فهذه الحرية من وجهة نظري تتلخّص في إعطائكَ حقّك في بناء معادلة رأيكَ الخاصة دون وجود قيود رقابية تتدخل فيها وتُؤثّر عليها، تستذكرها عند بنائها فتُهدّئ من روعك وتُخفّف من لهجتك، فتُغيّر في متن معادلتك بدوافع خوفك أو رهبتك أو رغبتك في ضمان أمنك واستقرارك، إنّك ضمن هذه القيود لا تعود حرّاً في قول ما تراه حتى لو كان صحيحاً، فلا حرية -ضمن هذه القيود- إلا حرية قول ما يراه الرقيب صحيحاً، حتى لو كانت رؤيته مغلوطة ومعادلة رأيه باطلة وتقوم على افتراض خاطئ يقول بأنّ اثنين زائد اثنين يساويان خمسة!

وفي سياق الحديث السابق عن الرقابة والرقيب، يُمكن القول بأنّ أنماط الرقابة التي قد يُعاينها في حياته المرء تتعدّد وتتنوّع؛ فهناك رقابة أولى تُمارسها أنتَ على ذاتك، وهناك رقابة ثانية نَفرضها عائلتك عليك، وثالثة تمدّ نحوك عيونها من مجتمعك، ورابعة تأتيك من السلطة أو الحكومة في الدولة التي تُقيم فيها، وإن سألتني عن أسوأ هذه الرقابات لقلتُ إنّها رقابة الحكومة، وإنّ استتبعته بسؤال آخر عن السبب في كونها أسوأها لأجبتكَ لأنّها رقابة تأتي في أشكال مقنّنة عبر قوانين ولوائح مكتوبة، ويقع عليكَ في حال عشتَ في ظلالها أن تقرأ على حريتك في التعبير –بل والتفكير- السلام.

مصطلحات مثل "المساس بأمن الدولة" أو "تهديد السلم الأهلي" يُمكن استغلالها وتقديمها كتهم جاهزة تُوجّه لكلّ من تُسوّل له نفسه التعرُّض للنظام السياسي.

إنّها -إذن- رقابة الحكومة تأتيك في أشكالها المقنّنة كغول خرافي له أنياب وأظافر ما أن تستحضر سيرته حتى يُصيبك الرعب فلا يعود لديكَ الجرأة حتى على استحضاره، وهذا هو تماماً ما تريده الحكومة من رقابتها المقنّنة، تريدُ أن تُميت فيكَ جرأتك لا على معارضتها فقط، بل على مجرّد التفكير في الشروع في هذه المعارضة أو تخيلها حتى.

وإنّ الحديث عن هذا النمط من الرقابة بشكل عام، سيدفعني كمواطنة فلسطينية إلى أن أنحو بحديثي منحى التخصيص، وأتجه به نحو قانون الرقابة الإلكترونية الجديد في فلسطين الذي تمّت المصادقة عليه –مؤخراً- بمرسوم رئاسي ونُشر في جريدة الوقائع الرسمية بتاريخ 9 يوليو/تموز الحالي. فبالتدقيق في تفاصيل هذا القانون ومواده ال61، لا يُمكن إلا ملاحظة هذا النمط من الرقابة الحكومية وهي تأتي في شكل غول خرافي يستهدفُ ثني المواطن الفلسطيني وإبعاده عن معادلته الخاصة في الرأي والتعبير.

وتبعاً لذلك، فإنّه وبحسب حقوقيون، فقد اتسّمت بعض مواد هذا القانون باستخدامها مصطلحات فضفاضة يُمكن للرقابة الحكومية –ممثلة بالأجهزة الأمنية- تفسيرها كما شاءت، فمصطلحات مثل "المساس بأمن الدولة" أو "تهديد السلم الأهلي" التي استخدمت في أكثر من مادة هي مُصطلحات يُمكن استغلالها وتقديمها كتهم جاهزة تُوجّه لكلّ من تُسوّل له نفسه التعرُّض للنظام السياسي –وفي مقدمته الحكومة- بعبارة أو كلمة.

كذلك، فإنّ هناك العديد من مواد القانون تحتوي في متن نصوصها على إجراءات رقابة كارثية تُجرّم الفرد على "منشور" يكتبه أو "إعجاب" يضعه على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك في كلّ ما يدخل في أبواب "المساس بأمن الدولة" أو "تهديد السلم الأهلي"، ولا تكتفي هذه المواد بتجريم الفاعل وقمعه بل تُجرّم كلّ المشاركين في الجريمة حتى لو كانت هذه المشاركة بالسكوت عنها؛ فبحسب المادة 2 من القانون –وكما فسّرها العديد من الحقوقيين- فإنّ مجرّد وضع "إعجاب" أو "Like" على منشور تُصنّفه السلطة الفلسطينية بأنّه ماس بأمن الدولة أو هيبتها، سيجعل من الواضع مُشتركاً في الجريمة كشريك أو كمحرّض، بل إنّ المادة 50 من القانون تُحدّد عقوبة معينة لمن يُطالع مثل هذا النوع من الجرائم الإلكترونية ويمتنع عن الإبلاغ عنها.

رواية ديستوبيا فلسطينية جديدة تحكي قصة سُلطة لمّا فشلت في ممارسة سيادتها على الأرض أرادت أن تُثبتها في الواقع الافتراضي، فراحت تُجرّم شعبها على "منشور" أو "إعجاب"

ولكَ أن تتصوّر -عزيزي القارئ- أن يكون المقصود من هذه المادة معاقبة من لا يبلِّغون عن منشورات مخالفة يُطالعونها على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكَ أن تستذكر في سرّك –كذلك- آيات وأحاديث وجوب غضّ البصر عن عورة منشور مخالف للسلطة قد يُودي بكَ -في حال طالعته ولم تُبلِّغ- إلى أقبية السجون لتمكث هناكَ شهوراً وأعواماً طوالاً!

يُضاف إلى ذلك كلّه، مواد جُعلت خصيصاً لمعاقبة كلّ من يُعارض نهج السلطة ليس في تعاطيها مع الشعب بل في تعاطيها مع الاحتلال، فالمادة 31 من القانون حددت عقوبة من يتجاوز حجب المواقع المحظورة باستخدام برامج أو تطبيقات مخصصة بالحبس لمدة ثلاثة أشهر وبغرامة معينة. فمع العلم المُسبق أنّ أغلب المواقع المحجوبة هيَ مواقع إخبارية بعضها يتعلّق بأذرع المقاومة العسكرية التابعة لحماس وغيرها، ومع الاطلاع على تبريرات الحجب التي وردت من قبل السلطة الفلسطينية والتي لم تخرج عن ما ذكر سابقاً من أنّ هذه المواقع تمسّ بأمن الدولة والسلم الأهلي، يُمكن تفسير هذه المادة بالقول أنّها تعكس رغبة ملحة لدى السلطة الفلسطينية في إشاعة نمط نهجها السلمي –المتبّع منذ أوسلو- في التعاطي مع الاحتلال بالقانون، وإدانة أي نهج آخر يُخالفها، بل حتى إدانة كلّ من يطلِّع على هذا النهج.

أخيراً، وبملاحظة صنوف الانتهاكات التي تزداد في فلسطين هذه الأيام، وتُمارَس في حقّ كتاب وصحفيين تستدعيهم الأجهزة الأمنية أو تعتقلهم بذريعة مخالفة هذا القانون، يُمكن التأكيد على أنّه إذا كانت رواية جورج أورويل 1984 –التي اقتبسنا عنها عبارة المقدمة- تُصنّف ضمن ما يُسمّى أدب الديستوبيا أو أدب المدينة الفاسدة، وتأخذنا في رحلة خيالية سوداوية إلى معالم دولة ذات نظام شمولي تُصادِر حرية الفكر والتعبير، وتَقوم فيها سُلطة الفكر بمراقبة وتجريم كلّ ما يأتي خارج عن نسق الحزب الحاكم وتصنيفه كـ "جريمة فكر"، فإنّ قانون الجرائم الإلكترونية يُؤسّس لرواية ديستوبيا فلسطينية جديدة تروي قصة شعب يعيش على أرض محتلة لم تتحرّر ولم تبلغ مقام الدولة، وتحكي قصة سُلطة لمّا فشلت في ممارسة سيادتها على الأرض أرادت أن تُثبتها على أرض الواقع الافتراضي، فراحت تُجرّم شعبها على "منشور" أو "إعجاب" يضعه على أرض الافتراض ليُعلن فيه مؤازرته لنهج مقاوم يعرف أنّه السبيل الوحيد لاستعادة أرضه على الواقع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.